نفاخر بأنّا سلالة ماء ونور

بعد أكثر من عام ونصف من الضياع والتشرد والتهجير- مثل معظم إخوتي في الوطن – من مكان إقامتنا التي امتدت لأكثر من عشرين عاماَ وسرقة بيتنا في عز الظهيرة.

بعد أكثر من عام ونصف من غياب شبه كامل عن المشهد الثقافي والإعلامي، وعن أعز ما أملك في بيتنا ذاك: (المكتبة)، التي لم يمسسها سوء أبداً على عكس كل أثاث بيتنا.

ها أنذا أجلس اليوم إلى طاولتي الجديدة، وما إن هممت بالكتابة حتى بدأت أناملي ترتعش وقلبي يزداد خفقاناُ.. وانتابتني حالات تعرق..

عدت بذاكرتي إلى طاولتي تلك ببيتي في قرية الواحة السكنية التابعة لمدينة من أجمل مدن الله وأقدمها حلب.. عدت إلى تلك الأيام والساعات المعبأة بالعمل والكتابة والحب والحياة.. تلك الأيام الحنونة التي عشناها.. نظرت حولي مَن هنا؟ لا أحد.. من جلس ونام وسهر وشرب ورفع أنخاب المحبة والوفاء والولاء للشعر للوطن للحب للجمال للحرية للوجود.. لا أحد.. لا أحد.

لكن عندما كنت أجول بنظري في تلك الغرفة من على تلك الطاولة كنت أرى كل وجوه الأحبة والأصدقاء والصديقات.. هنا جلس طالب هماش وحمزة الرستناوي ونصر محسن، وهنا نام عبد الكريم الناعم وجمال الدين الخضور وعبد الرحمن الإبراهيم وماجد الأسود وهنا جلس آصف عبد الله وفايز العراقي وعبدو محمد وأحمد مشول وفرحان الخطيب.. وهنا جلس أديب حسن محمد ومنير خلف وهايل الطالب ومحمود علي السعيد ومنير حبابة، هنا جلس أسامة حويج العمر وبديع صقور وأحمد كامل الخطيب وجمال طحان وهنا وهنا.. يااااااااااااااالله أين هم الآن.. وهل ما زالوا على قيد المحبة والحرية والوطن والحياة..؟! هنا وهنا وهنا.. أدباء وأصدقاء وصديقات جاؤوا من مختلف مدن ومحافظات وطننا الحبيب، سهرنا وقرأنا الشعر وتحدثنا عن الجمال والحب والحياة. وكان الوطن هو الواحد الأوحد الذي لم ولن نختلف حوله، تحدثنا عن مفاهيم كم كنا نعمل على تعزيزها مثل المواطنة والحقوق، الحرية، الأخلاق، القيم، المحبة، المواطن، الكرامة.. إلخ.

كنا نختلف بمحبة ونتفق بمحبة نتصافح بمحبة ونودع بعضنا بمحبة.. كنا كأسراب الفراش نحوم حول نور الوطن ومحبته والمحافظة علية عزيزاً شامخاً نقياً لكل السوريين، كل السوريين دون استثناء.

جلت بنظري من على طاولتي الجديدة واغرورقت عيناي بالدموع، لأني أعرف أن هناك إخوة لي في الوطن لا بيت لهم ولا طاولة ولا طعام أو ماء.. لا دواء لأبنائهم ولا غطاء..

اغرورقت عيناي على وطن امتلأت شوارعه وساحاته بالدماء.

على وطن كنا وما زلنا نفاخر بمكوناته، بنسيجه الاجتماعي الواعي الجميل، برقة وحنان وعذوبة أبنائه.. فسوريتنا لم تتكون أو تتشكل بالأمس، ولم تسمَّ بعائلة أحد كغيرها من الممالك والإمارات، ولا تنتمي لمرحلة تاريخية أيا كانت.. سوريتنا ليست ابنة أمس أو أول أمس، لا ولا حتى ابنة عصر عثماني أو مملوكي أو عباسي أو أموي أو إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو.. أو.. أياً كان فسورية تنتمي إليها كل العصور وتفاخر بها كل الأزمنة، سورية الوجود الأول للخلق الأول للحضارة للإنسانية للحرية.

سورية كنهر الفرات ودجلة والعاصي..كالبحر المتوسط وكجبال الساحل وسهول حوران وصحراء تدمر وامتدادات البادية.. فهل ثمة كائن يستطيع أو يزعم أنه يستطيع أن ينسب النهر أو السهل أو الجبل لأي عصر أو قائد أو دين..

سوريون.. ولنا الحق في أن نفاخر بأننا نحن من أخذ بيد الغرب والشرق ودربناهم على الحبو والمشي والعدو وتعلم الكلام، مسكنا بأيديهم المرتجفة الغضة ودربناهم على كتابة الأسماء والأشياء بأحرف من صنيعتنا، فسادت لغة الإشارة والعبارة؟

اغرورقت عيناي بالدمع على أصدقاء فقدناهم وآخرين نجهل مصيرهم.. على أهل وإخوة هجروا ورحلوا ودمرت آمالهم مثلي أنا تماماً.. على أمهات ثكلى فقدن ما فقدنه من بضع قلوبهن ونساء رمّلن وأطفالاً يتمّن، على سوريين في مخيمات الشتات بعد أن كانوا في بيوتهم في وطنهم سادة العالم..

 كلمة قلناها سابقاً وسنبقى نقولها سورية أهم بكثير من كل الأحزاب والدول وهيئات الأمم المتحدة..وقبل كل شيء أهم من المولاة والمعارضة، ولن تكون تربة اللإديولوجيات والتيارات السلفية والتكفيرية ولا للمصالح الفئوية الضيقة ولا عصا بيد أي من الدول ولا فزاعة بوجه الأخرى..سورية للسوريين أولاً وأخيراً، فهم حراكها الزمكاني الأوحد والأهم، وكل ماعدا ذلك يمكن أن يناقش بين السوريين وتحت القبة السورية والعلم السوري فقط لا غير. لأن سورية، كما قلنا، صرخة الحرية الأولى وزهرة الحياة الأولى وديمقراطيتها، سورية عشرات الطوائف والملل والإثنيات.. فهي للكل لا لجماعة أو حزب أو تيار، ولم ولن تكون غير ذلك.

سورية من أجل كل هذا وذاك، ولأنها كل هذا وأكثر، فهي القادرة على دحر وسحق كل قوى القبح والغدر والإرهاب، فقط لأنها تمتلك بين أصابع أيّ أبنائها أكاليل حب وحضارة وحياة، وتحت أظفار أطفالها كل دروس الحرية والديمقراطية لكل العالم (المتحضر) وزبانيته في المنطقة.

 وتحت أقدام الأمهات دروب الجنة للذين ضلوا طريقها.

سورية جغرافية النور والشمس كلها، فمن الصعب أن تتحول أي بقعة منها إلى ظلام.. أو حتى غبش، ومن الصعب أن نرى أو نسمح للقطاء هذا الزمان أن يعيثوا فيها فساداً.

العدد 1140 - 22/01/2025