البحث العلمي ركيزة التطور

يمكن أن نعرّف مفهوم البحث العلمي، بأنه المزج بين الدراسات النظرية، والتجارب والاستكشافات العملية التطبيقية، للوصول إلى منتج منطقي ومنهجي، تبنى على نتائجه أسس العمل في المجالات التنموية والإنتاجية والاقتصادية والعلمية والإنسانية والفكرية كافة، وإلى ما هنالك من مجالات.

في منتصف القرن التاسع عشر كان علماء النفس والاجتماع، هم أول من وضع المناهج والأساليب الصحيحة، لطرق البحث العلمي، وإظهار أهميته في التحديث والتطوير، وفي إيجاد الحلول للمشاكل الإنسانية…يجري العمل بالبحوث العلمية على مستوى الأفراد أو مؤسسات الدولة، أو على مستوى المؤسسات الخاصة، وأغلب قضايا البحث العلمي تُجرى  بعمل جماعي إن كان يحتاج إلى ميزانية ونفقات مالية كبيرة.

تبدأ الحاجة للبحث العلمي، عندما يُراد العمل بمشروع معين إن كان فكرياً أو مادياً، أو عند تطوير وتحديث مشاريع قائمة. ويعتمد هذا البحث بالدرجة الأولى على نقل تجارب المؤسسات العالمية المتقدمة والمتطورة وخبراتها، واستقدام خبراء متخصصين منها، أو إرسال متخصصين وطنيين لاكتساب الخبرات في مكان وجودها، ثم نقلها إلى بلدانهم، بعد دراسة كافية لإتمام أبحاثهم المحلية، وبذلك يمكن استنتاج تعريف آخر للبحث العلمي، هو نقل التجارب الناجحة للشعوب المتطورة والمتقدمة في مجال معين، إلى الشعوب الأقل تطوراً.

في الزمن الحديث ساعدت وسائل العولمة وتعدد وسائل الاتصال، على سهولة الاطلاع والبحث وتبادل الخبرات بين الشعوب. تعتمد أسس البحث العلمي على عدة مجموعات من المختصين تعمل بشكل هرمي، تتكون قاعدة الهرم من وجود العديد من المعطيات والبيانات والدراسات، يتم العمل بعدها بالتجارب والتطبيقات واستنتاج نتائج وبيانات جديدة، للعمل في مستويات جديدة من الهرم حتى الوصول إلى النتائج النهائية في قمة الهرم، وهي النتائج التي ستعمم للعمل بها في المجال المطلوب.

يتسارع اهتمام الشعوب بالبحوث العلمية، لأنها أساس التطور والتقدم في كل مجالات الحياة، لكن اهتمام العرب بالبحث العلمي لم يؤخذ على محمل الجدية والاهتمام، سوى بالكلام والخطابات والتمنيات، بسبب اهتمام الحكام العرب عبر التاريخ الحديث بتكريس العمل في كل أمور الدولة لخدمة وجودهم كأفراد وليس كمؤسسات، فبقيت مجتمعاتهم متخلفة تعتمد بشكل كامل على القليل من تجارب الغرب في بعض القطاعات التي لا تهم أحداً في أغلب الأحيان، ولهذا السبب تخلّف العرب عن مسيرة الحضارة الكونية، وعدم الاهتمام الجدي هذا يعتبر من أهم معوقات البحث العلمي في المجتمعات العربية.

من أهم شروط البحث العلمي أن يعتمد على العلمانية في التفكير، العلمانية التي تحتاج أحياناً وليس دائماً، إلى العمل بما يعتبره البعض مخالفاً للنصوص الدينية، أو الموروثات الدينية المكتسبة، ونلحظ هذا الشيء في مجتمعاتنا العربية عندما يتهمون بالكفر أو الزندقة، كل من يبحث في بعض المجالات التي يعتبرونها محرمة لأسباب ضعيفة وغير منطقية يتذرعون بها ويفرضونها، حتى يصل بهم الأمر إلى تكفير الحضارة كلها، بالنظر إليها من زاوية ضيقة لا يرون فيها إلا أنها محرض للشباب على الابتعاد عن الفكر الديني والبيئي والسياسي الراسخة في عقولهم. هذه المشكلة هي أيضاً من المعوقات التي تواجه البحث العلمي العربي.

في جامعاتنا ومعاهدنا تكون حلقات البحث هي النواة الأولى للبحوث العلمية، ولكن البعض من طلاب الدراسات لا يتعاملون معها بالشكل الصحيح، فلا يهتمون بها كما يجب، بل يصل بهم الأمر إلى نسخ البحوث المنجزة سابقاً، أو شراء أبحاث جاهزة من مصادر تجارية، دون الاهتمام بمحتواها، لذلك سيبقى مجتمعنا يدور في دوائر التخلف، لعدم عمل من كان يُراد بهم أن يكونوا فعالين في تطويره بالشكل الصحيح، وهي ظاهرة منتشرة تضيف عائقاً جديداً أمام تطور البحوث العلمية.

هنا يكون دور الجيل الشاب المثقف الواعي، الذي يعلم أن الوصول إلى الحضارة المنشودة، التي وصلت إليها أغلب شعوب العالم، يحتاج إلى العمل بشكل جدي بكل مجالات البحوث العلمية، ورفض المعوقات السياسية والدينية والبيئية والاجتماعية المعرقلة لأي تقدم حضاري.

وهذا الجيل الشّاب المكوّن من المختصين والدارسين، الرافضين لأي ارتباط بالموروثات المعرقلة للتقدم، والذي سيعمل بكل ثقة وجدية واهتمام والعمل للحاق بركب مسيرة العالم المتفوق في كل مجالات الحضارة الناتجة عن عملها الدؤوب بالبحث العلمي، هذا الجيل هو الأمل في وضع العجلات المناسبة، التي لابدّ أن تتحرك بواسطتها عربات تطور الحضارة العربية المتوقفة بعراقيل مقصودة، أو غير مقصودة، عبر التاريخ.

العدد 1140 - 22/01/2025