الأدب كجرس مقدس.. الانتباه والتوغل في الجوهر هو الهدف
الكاتب الأدبي الكبير هو الذي يوقظك على إنسانيتك. إنها برهة الإنابة إلى جوهر الإنسانية المعزولة عن الزمان والمكان والتاريخ. غوته الألماني كاتب (فاوست) تجسيد لذلك.
اقتطفنا هذه العبارة من كتاب (الخيال والحرية) للناقد الراحل (يوسف سامي اليوسف) لما تتضمنه من قيمة أدبية وأخلاقية كبيرة انتبه إليها كتاب وغابت عن آخرين وهم يكتبون ويقدمون منجزاتهم، فالبعض أدرك معنى الانتماء إلى الجوهر وأوصل رسالته بعد أن حصّل مستوى عالياً من الوعي بأهمية الرسالة التي اختار أن يحملها.
(هرمن ودروتيه) قصة طويلة لغوته، استوحاها من ظروف النازحين المتضررين من أحداث الثورة الفرنسية، استخدم فيها اللغة البسيطة كلغة أبطالها القرويين، ليحكي عن مشاعر الحب التي اجتاحت هرمن تجاه دروتيه الشابة المتشردة مع ذويها والمناضلة بقوة في خدمتهم.
قسمت القصة على فصول سماها بالأناشيد، وفي النشيد الأول مشهد قصير للنازحين العراة أو شبه العراة وبينهم نساء وأطفال هجروا من بيوتهم، وفي نشيد آخر يقول هرمن (إن الذين لا تأخذهم عاطفة رحمة على أولئك الشريدين، هم أناس صدورهم من نحاس، وقليل العقل جداً من لا يعنى في هذا الزمن العصيب بسعادته وسعادة وطنه)
غوته الذي وصفه (طه حسين) بالفيلسوف العظيم وبالرجل الإنساني العالمي، ليس الوحيد الذي آمن ودافع عن القيم النبيلة، لكنه يعتبر مثالاً صريحاً على ذلك.
واليوم ونحن نتصفح منجزات أدبية هنا وهناك نعثر على هذه الروح المنيرة عند الكثيرين، وحصل ذلك حين تصفحنا مثلاً المجموعة القصصية (سلوكيات مرتقبة لرجل مائل) للقاص نصر محسن الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، وخاصة الجزء الأول المعنون (وطن وزنازن)، وكذلك أثناء قراءة المجموعة الشعرية (أكواريل) للكاتبة سوزان إبراهيم الصادرة حديثاً.
ناقشنا الكاتبين حول مقولة الناقد اليوسف وسألناهما حول هاجسهما حين كانا يكتبان هذه النصوص، وكذلك حول مسؤولية الكتاب في رفع الصوت لأجل جوهر الإنسانية.
تضخيم العيوب طريق لليقظة
قال الكاتب نصر محسن في مداخلته: يوسف سامي اليوسف يدرك أكثر من غيره هذه الغفلة القاتلة لدى معظم الناس، الناس الذين هم بأمس الحاجة لليقظة، اليقظة التي تجعلهم أكثر التصاقاً بإنسانيتهم وهنا تكون مهمة الكاتب مضاعفة، فكما يتطلب حسّه الإبداعي إنجاز نص متكامل ومتميز فنياً كذلك عليه مراقبة ما يحيط به من ضغوط، من حيث أنه الأكثر تحسساً من غيره إزاء ما يمكن اعتباره (كوارث إنسانية) هو يعتبرها كوارث لأن المطلوب منه أيضاً تضخيم العيوب، لا لتظهر بجلاء فحسب، وإنما ليدرك القارئ مدى خطرها غير المباشر عليه. في مجموعة (سلوكيات مرتقبة لرجل مائل) عمدت التطرق إلى أكثر من محور لكنها بالمجمل تعالج مواضيع ذات هموم إنسانية. ومحور وطن وزنازن بالتحديد يلامس الهم الإنساني بشكل حادّ وقاسٍ، ربما كان ذلك من منطلق تضخيم العيوب وعلى مبدأ تسويد الأسود، وجدت نفسي كفنان يمسك قلم الفحم ويملأ مساحة البياض بكثير من الغيظ فتكون اللوحة مساحة سوداء أمام متلقٍّ يبحث عن نقطة مضيئة فلا يجدها وهنا أعتقد أنه سيعمل جاهداً على إيجادها، ولو اضطر إلى تمزيق اللوحة بغيظ أكثر قسوة. خلق الحافز للتغيير لدى المتلقي هو هاجسي الذي لا يمكنني التخلّي عنه، أعتبره رسالة، وعليّ إيصالها وإذا كان هذا الهم الإنساني العام يتملكني بشكل رهيب، فلا شكّ أنني أحاول بشكل أو بآخر ترجمة ما قاله الكبير يوسف سامي اليوسف فإن نجحت كان لي الفخر، وإن لم أنجح كان لي شرف المحاولة، محاولة مستمرة معي بدرجات تعلو وتنخفض حسب قراءتي الخاصة لمستوى الهم الإنساني المحيط بي.
التوغل في الأشمل
وقالت سوزان إبراهيم: إن كان لابد من الحديث عن الأنساق الثقافية في مجموعتي الجديدة (أكواريل) وفق نظرية النقد الثقافي فإن النسق الإنساني هو الأعمق والأهم في هذه النصوص،وتضيف الكاتبة سوزان إبراهيم: تتعامل نصوص مجموعتي مع فسحة إنسانية واسعة الطيف من جمالات الكون وصولاً إلى جمالات الإنسان، وإلى رفع بصمات آلامه أيضاً. لا يمكنني التنبؤ بما يهجس به الكتّاب، لكن كتبهم هي من ينبئ عن ذلك. من هنا يمكن القول إن كثيراً من هذه الكتب تركزت بؤرة اهتمامها على الذات والأنا، باعتبار كل العسف الذي لحق بها بسبب التقاليد المجتمعية وأعرافه وربما بسبب تفتت في الرؤية الشاملة وانحباسها في زاوية ضيقة موضعياً مكانياً وزمانياً
في زمن الألم الكبير، الألم الفارق والاستثنائي تستيقظ وجدانيات الكاتب وينتصر الجماعي ربما على الفردي باعتبار أن الموت والقتل والعنف يطول ويوحد الجميع. ولأن الكاتب أول من يستقبل الألم ويبثه، كما صحن لاقط، فمن البديهي أن يكون أكثر المتأثرين بآلام الإنسان. هاجسي في كتابة أكواريل كان التوغل في تفاصيل الكون، ومناطق التشارك الإنساني الأوسع والأشمل وبما يجعل من النص ورطة جمالية وفنية لأي قارئ على هذه الأرض، العمل في هذه المنطقة الجمالية الإنسانية تحمل لأي نص حياة مديدة وقراءات مختلفة ومتعددة المستويات وفقاً لمستويات التلقي بالطبع.