صوت سوري صارخ بأوربا الموسوعة الفرنسية «البورتريه في الفن المعاصر» تحتفي بالفنان التشكيلي كاظم خليل
إذا كان التعبيريون قد غيروا تصوراتنا العميقة، وتنبؤوا بالأحداث المأسوية للقرن العشرين، فإن كاظم خليل يجمع، إلى ما وراء قواهم الخفية، شعوراً غريباً يربط الهلع باللعبة الوجودية بين الإنسان والموت. فالإحساس، بشكل متناقض، لا يدفعنا إلى الهاوية، بل إنه يفتح، بالتأكيد، على وجــوه تؤدي إلى عــالم قد شوهد في السابق، على طريق أثقلته جميع أهــوال الأرض. هناك يأس ضمن هذا الرعب، ويحتاج الفنان إلى برودة الدم للتعرف إليه، وكأنه كاهن، مظاهر العاطفة التي تطبع على جسم البشر في تلك اللحظة.
صدرت الطبعة الثانية من الكتاب الفني الموسوعي الفرنسي (البورتريه في الفن المعاصر) عن دار النشر الفرنسية (باتو) باللغتين الفرنسية والإنكليزية مؤخراً، لتحتفي بنتاج الفنان كاظم خليل، العربي الوحيد في هذه الأنطولوجيا العالمية، التي صدرت بتقديم الناقد المعروف فرانسيس باران، رئيس الجمعية الدولية للنقاد التشكيليين، بمقدمة بدأها بمقولة النحات الفرنسي الشهير (رودان): (لا يوجد عمل فني يفصح – إلى هذا الحد- عن قوة البصيرة وحدة الذهن، أكثر من البورتريه. إذ إن هذا العمل يعادل بقيمته، سيرة شخصية كاملة، وترجمة عميقة للحياة).
في هذا الكتاب الموسوعي الذي رصد تجارب لأهم الفنانين الذين تناولوا فن البورتريه (الوجه- الرأس) في العالم المعاصر والحديث كعنصر وتيمة فنييتين، ومن أبرزهم الفنانون: الأمريكيان الراحل أندي وورل، وشاك كلوس، الصيني (يان- بي- مينغ)، والفرنسي (فيليب باسكوا)، الإنكليزي رون موك، و.. أكثر من مئة فنان آخر، إضافة إلى رصد تجربة الفنان التشكيلي السوري كاظم خليل على كامل ثلاث صفحات، إضافة لثلاث صور من أعماله، وبنص – مترجم للفرنسية والإنكليزية- للشاعر أدونيس، يتحدث فيه عن عوالم الفنان كاظم.
عن هذه التجربة الاستثنائية يقول أدونيس التي عنونها بـ: (هل تريد أن تحظى بنفسك؟ إذاً تبَلْبَلْ!
1
تبدو أعمال كاظم خليل، كأنما تجيْ من أغوار بعيدةٍ، ومعتمة، من أماكن يهملها التاريخ. بينها الطبقات السفلى من الذاكرة.
ومنذ أن تفارقها، ستشعر كأنّها توشوشك من بعيد:
ــ تَبَلْبَلْ، إن شئتَ أن تحسن الالتقاء بنفسكَ وبأبعادها.
2
يسري في اللوحة هذيان خاص ليس من جهة الانكفاء، بل من جهة الاستباق.
لكن، عندما نرى أجنحة هذا الاستباق، يغرينا الفضاء الذي تطير فيه، بأن نستقرَّ، ونبحث، ونستقصي.
وعندما نرى هذا الفضاء، تغرينا الأجنحة بأن تطير في كل اتجاه.
3
لا تسأل اللوحة: من أين أتيتِ؟
اسألها: إلى أينَ تمضين؟
4
الأحلام كلّها تنخفض ــ لكن في الواقع،
والأشياء كلّها تعلو ــ لكن في اللوحة.
5
ألوانٌ تحبّ السفر، هي الرماديّة، في ضوء خافت، يقيناً منها أنّ الضوء الذي يسطع، حقّاً، هو من هذا السفر نفسه.
6
يهيمن على اللوحة غيمٌ سريٌّ، نصفه أسئلة، ونصفه الآخَر تحريض على ابتكار أسئلة أخرى.
7
كيفما نظرت إلى اللوحة، سيُخيّل إليكَ أنّ النار فيها لا تتوقّف عن مدِّ يدها لكي تتسول الرماد.
8
في اللوحة نورٌ يضيء أنحاءها،
غيرَ أنّه لا يوجد على النحو الأكمل إلاّ في الظلّ.
وفيها صورة للحريّة، يُخيّل لمن يراها أنها تبكي.
ماذا يعني لكَ بكاء الحريّة في العمل الفني؟
في كلّ حالٍ ستكون حريتكَ لفظيّة،
إذا كنتَ لا تعرف هل تبكي الحرية منكَ، أم عليك؟
9
لا تنسَ، أيّها المتأمّل في اللوحة،
أنّ عليكَ لكي تعرفها حقّاً، أن تعرف كيفَ تسير بين طبقاتها، وأن تعرف، خصوصاً، أنّ الضوء فيها يمطر خيوطاً، وأنّ الخيوط تتحوّل إلى نسيج من الغيم.
10
لوحةٌ.
كمثل سفينة تسافر دون أن تغادر مرساها.
11
تسألك اللوحة فيما تنظر إليها:
هل رأيت الوردة المنزوية خلف عتبتي،
والتي تُسمّى طفولة المستقبل؟
يُشار إلى إن الطبعة الأولى من هذه الموسوعة قد صدرت عام 2011 . و..هذا الكتاب هو الأول من نوعه يُسجل للفنانين المعاصرين ويعمل على (تيماتيكو) البورتريه (الصورة)، ولكن الأكثر انفتاحاً. كبانوراما بأوسع إمكانية للمشهد الإبداعي الراهن بتنوع الكثير من التقنيات، والحلول البصرية والتشكيلية والرؤى والتقنيات والنهج التي مكنت هؤلاء الفنانين من استخدامها لإنتاج وتحقيق تلك الوجوه.
و- لوحة كاظم (المذبح: خشبة التقطيع ) فاز على أساسها الفنان التشكيلي السوري كاظم خليل بالميدالية الفضية، بمشاركة (1500) فنان من مختلف أنحاء العالم في صالون (باريس فنون العاصمة) بداية هذه السنة بالغراند باليه: القصر الكبير في العاصمة الفرنسية.
كاظم، في مزج ألوانه ثمة انطباعية فرنسية أساسها الضوء ومنعكساته اللونية وتحليل وتركيب التونات عبر هذا الضوء، كما أن الموضوعات التي يعالجها هذا الفنان السوري، هي بطبيعة الحال تعبيرية ألمانية تتساوق مع المفاهيم الفلسفية، والوجدان التأملي الفلسفي. إذاً، نحن أمام عمل استثنائي متعدد الينابيع الثقافية، أنجزه فنان من سورية حاضنة الفلاسفة الأولين – الغنوصيين والرواقيين- وكما في أنوارها سكن الأنبياء، وتماهى الصوفيون في سماءاتها العالية، ومن موشورات فضاءاتها وأنهارها: تناسل الضوء ألواناً، وتلألأت أساطير الإنسانية.
ولوحة كاظم خليل (المذبح: خشبة التقطيع) الفائزة بالجائزة، هي عبارة عن رأس في المنتصف الأعلى من اللوحة.. تاركاً النصف الأسفل من القماشة البيضاء، وبجرأة استفزازية، دون معالجة سوى بعض نتف الألوان المتطايرة بتأثير قوة الحركة الانفعالية.. الرأس كأنه محمول على الأفق وبمنظور من الأسفل إلى الأعلى، بعيون تنظر إلى أسفل اليمين، وبضع قطرات من الدم. واللوحة من الحجم الكبير (2م/160سم) ومنفذة بالألوان الزيتية.
كأن اللوحة غير منتهية؟ نسأله، يُجيب كاظم: باكتمال اللوحة تتناقص الفكرة، فهل اكتملت حياة يوحنا المعمدان أو أدونيس أو هيلوفرين أو الحسين؟ أسأله فيجيب: لم تكتمل القيم الفكرية والإنسانية التي انبنت عليها تلك الحوامل الثقافية لهؤلاء الأضحيات (الضحايا) المقدسين ضد المفاهيم البدوية والسلطة الذكورية..ولما كانت اكتملت دورات الحياة على ضفاف دجلة والفرات، في هذه اللوحة التي نفذها كاظم بالسكين…فقط، يحول السكين بأصابعه الطفولية من أداة للقتل ، الى أداة للفن والحياة. ردّاً على كل القوى الوهابية التكفيرية التي تحاول تقطيع الجسد السوري.
كما عرض مجموعة من الرسومات الغرافيكية والكروكيات المنفذة بالحبر الصيني والأتربة المعدنية، وذلك بأسلوب تعبيري يعكس الآلام والمآسي التي تلم بالوطن السوري الجريح.
بقي أن نقول إن الفنان كاظم خليل صوت سوري صارخ في أوربا، يُحارب بريشته السورية الخالصة، فهو، منذ أكثر من عامين، لا يهدأ، يُقيم المعارض التشكيلية، يشرح من خلالها الوجع السوري.