ليسـت حـكاية للأطفال
لحكمة أو لعلة في خلقه، جاء المعمرجي مثقال وزوجته المعلمة أمينة، مصبوبين في قالبين متناقضين، خَلقاً وخُلقاً، إلى حد يبدوان معه لناظرهما، كخطين متوازيين، مهما امتدا لا يلتقيان، غير أن ذلك لا يعني أنهما يشكلان مع أمثالهما، حالة نادرة في المجتمع وإن كانت قليلة. والدليل هو زعمي، أنه لا يصعب على أحدنا، بجردة بسيطة لذاكرته، أن يقع بين معارفه على شبيه لهما أو أكثر.
***
من الصفات غير المشتركة طبعاً، في خطّي مثقال وأمينة المتوازيين. اعتداده بالأمثال الشعبية وترديده وحشره لها في الكلام – بلزوم أو من دونه – بصرف النظر عما إذا جاءت تلك حديثة نسبياً، أو كانت قديمة دارسة، أكل الدهر عليها وشرب ورمى فضلاته. ويأتي تالياً تشبّثه بمداميك آرائه الخاصة، حتى لو كان أسمنت أساساتها منتهي الصلاحية، أو لا أساس لها أصلاً.
***
للحقيقة، لم يكن وقوف أمينة على العكس من زوجها، ضد الأمثال، بما هي ثمرة جهود جماعية، ونتيجة خبرات وتجارب أجيال وأجيال. وإنما ضد الطريقة التي تفهم بها العامة – ومنهم مثقال – تلك الأمثال ويستخدمونها بها. إذ يقتلعونها من جذورها وبيئتها وسياقاتها، ليركزوا على حرفيتها. بمعزل عن التتمة المضمرة للمثل، التي حال دون إظهارها، طبيعة تكوينه المنحازة للاختصار والإيجاز والتأشير. بهدف تسهيل حفظه من جهة، والإبقاء على فسحة للمتلقي، كي يفسره بما يتلاءم مع سعة ثقافته وراهن أدبيات عصره، من جهة ثانية.
***
في إحدى أماسي أيلول الجاري، (الموافق للسنة الخامسة من المحنة السورية) . وفي جلسة لا تقل عنه حرارة وحميمية، بشمسه الحارقة ومتطلباته الكاوية، التي تقرع أبواب الشتاء، ممزقة طبلات آذان معظم السوريين والسوريات وصبرهم وعقولهم وإيمانهم…
في تلك الجلسة التي لم يلطّف من حرارتها ، سوى برودة دم مثقال وصقيع أمثاله المتجمدة، تحلقت المعلمة أمينة وجاراتها وراحت شكاويهن تتقاطع، فوق صينية عليها بضعة كيلوات من الباذنجان المسلوق، مع آدام حشوتها في صحنين خجولين من ملح وثوم.
***
سارت حلقة المكدوس المؤلفة من جارات أمينة، اللواتي ينتمين إلى النسيج الاقتصادي الأفقر الذي ينتظم معظم الأسر السورية، ومنها المهجّرة، على مبدأ: هرج وكرج، وكلما عرضن لإحدى الأزمات، عالجها مثقال بالمثل المناسب.
تكلمت الجارات على أزمة الفقير في الشهر المذكور، لجهة تأمين الحاجات المدرسية للأولاد، من بدلات وكتب ودفاتر، فجاءهم صوت مثقال: (بيقول المثل: الصبر مفتاح الفرج)..
تكلمن الأزمة لجهة تأمين مؤونة الشتاء، من مكدوس ودبس بندورة ومقدّد بامية وكوسا وفاصولياء و.. في الوقت الذي أسرٌ كثيرة لا تقع فيه على ما تعالج به بطون أطفالها الخاوية.
فجاءهم مقدد مثل مثقال (بيقول المثل: هالبطن ما حدا مفتشو)..
تكلمن على العوائل التي غادرت منازلها، بثيابها فقط، هرباً من الموت.
فكان إفتاء الشيخ مثقال : (بيقول المثل: على قد بساطك مدّ رجليك).
ولدى شكواهن من توزيع قسائم المازوت ذات الأربعين ليتراً، ليتدفأ بها شتاءً أصحاب الجيوب الدافئة لا غير. لا سيما أن الرواتب لا تدفئ الجيوب، سوى بليالٍ بيض معدودات، في أوائل كل شهر.. يتنعم بها أصحاب الدخل المحدود عما سواهم، حسب مثقال وذاكرته الفنية.. فقد أردف (هَهْ.. وهذي عيديّة من عند الدولة. . ما معنى خمسة آلاف ثمن 40 لتراً؟! نبيع القسيمة ونأخذ ثمنها. لكن ما العمل إذا كان شعبنا، كما يقول المثل : (لا يعجبه العجب ولا الصيام برجب !).
***
أمّا بخصوص تشبث المعلم مثقال برأيه، فبوسع الواقعة التالية إعطاؤكم صورة عنه:
بينما كان المعلم مثقال يبني جداراً من اللِّبن، في بدايات تعلمه المهنة، مرّ به رجل لفت نظره ميلان الجدار من الأعلى . فتوجه إلى البنّاء مستفسراً:
-ألا ترى يا معلم أن جدارك مائل؟
فأجابه مثقال بالنفي.
ولمّا أكّد الرجل ميلان الجدار بمسافة تتسع للعصفور أن يطير ما بينه وبين (البلبل) الذي ينزل عامودياً على الأرض.
أصرّ المعلم مثقال على نفي أيّ ميلان في بنائه حاسماً كلامه مع الرجل بقوله:
ميزان عيونك هو المائل ( يا حبيب أمك) وليس الجدار!