سياسة تجارية خطرة
تنبع العديد من المعضلات التجارية الحالية ونتائجها على السياسة الخارجية الأمريكية من اعتقاد سائد عند الأمريكيين بأن دولتهم لم تلعب دوراً ناجحاً في التجارة العالمية. يكمن وجود هذا التصور منتشراً في المجتمع الأمريكي على اختلاف أطيافه، كما يؤكد العديد من اقتصاديي الولايات المتحدة، ويتجذر في تقليد تجاري قديم يقول بأن الصادرات خير من الواردات، وقد جرى تدعيم هذا الدرس في التقارير الشهرية عن التبادل التجاري، التي تصاحبها دائماً أنباء عن (تفاقم العجز التجاري) الوطني تناقش أهمية هذا العجز في أوساط الاقتصاديين. ولكن لاشك في أن الاعتقاد السائد بين الأمريكيين هو أنهم يعانون (نقطة ضعف) في التبادل التجاري، وأن الولايات المتحدة ليست ناجحة في مجال التصدير.
ليس هناك ما هو أبعد عن الحقيقة من ذلك.. فلو نظرنا إلى السنوات المئة الماضية، لوجدنا أن الولايات المتحدة حافظت على مستوى 12-13% من مجمل الصادرات العالمية، وكان الحال كذلك في مطلع القرن العشرين عندما هيمنت المنتجات الزراعية على الصادرات الأمريكية (وهيمنت أوربا على الصادرات العالمية)، كما كان في نهاية القرن العشرين عندما استبدلت بالصادرات الزراعية، المنتجات الحديثة، أي الطائرات ومحركاتها، والمعدات الطبية والأجهزة ذات التقنية العالمية.
ولم تتخطّ نسبة الصادرات الأمريكية مستواها المعهود والثابت الذي يبلغ 12-13% من الصادرات العالمية، إلا بعد الحربين العالميتين.. ففي تلك الفترة، لم تتمكن العديد من الدول من الاستمرار في الساحة التجارية الدولية نتيجة للدمار الذي لحق بها بسبب الحرب، وبذلك تمكن الأمريكيون من احتكار السوق لفترة مؤقتة لم تطل. أما في جميع الأزمنة الأخرى، فكان المستوى ثابتاً تقريباً عند 12-13%، وهو مثير للإعجاب أن تجد أن مستوى الصادرات الأمريكية كان ثابتاً على سبيل المثال في كل من عامي 1913 و2000 عند 12,6% من مجمل الصادرات العالمية، على الرغم من أنهما عامان يفصل بينهما دهر.
لكن فترة ما بعد عام 1980 تستحق لفتة أخرى.. لقد شهدت تلك الفترة انفجاراً في التجارة العالمية وبروز العديد من الأقوياء الجدد في الميدان الاقتصادي، معظمهم إما لم يكونوا موجودين على الإطلاق في بداية القرن كقوى مستقلة أو – كما هو حال اليابان- كانوا قد دخلوا للتو في أسواق التصدير العالمية.
ففي عام 1913 لم تكن حصة اليابان من الصادرات العالمية سوى 2%، وقد تضاعفت منذ ذلك الحين أكثر من ثلاثة أضعاف.. أما الآخرون (سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ) والذين لم يكن لهم دور مستقل على الإطلاق كدول مصدرة قبل الحرب العالمية الثانية، فإن مجموع حصصهم العالمية اليوم يتعدى 10%.. ولو أضفت إليهم الصين وهي أحدث إدخالاً في نادي المصدرين الآسيويين، ستصل حصة الجدد إلى أكثر من 15%، ومع اليابان تصبح النسبة أكثر من 20%.
تكمن أهمية هذه الحسابات في أن أكثر من خُمس الصادرات العالمية الآن أصبحت بيد اقتصادات لم يكن لها وجود في بداية القرن العشرين.. وعلى الرغم من ظهور تلك القوى الجديدة، إلا أن الولايات المتحدة حافظت على حصة ثابتة تقريباً من التبادل التجاري العالمي، وكان هذا هو العامل الوحيد الثابت في عالم المتغيرات.. إن الولايات المتحدة وعلى عكس المقولات السابقة السائدة التي تصفها بأنها (محرومة) في التجارة العالمية، تظهر كأحد الأطراف الرابحة تجارياً.
وقد أدى الاعتقاد بالعكس، أن الظروف لا تميل لصالح الولايات المتحدة، إلى نتيجتين مقلقتين، الأولى هي تبني الولايات المتحدة لسياسات (وقائية) دفاعية، والنتيجة الثانية والأكثر خطورة هي نمو الاعتقاد بأن على الولايات المتحدة أن تنشئ العديد من مناطق التجارة الحرة، سواء باتفاقيات متعددة أو ثنائية الأطراف.
إن الحقيقة ليست أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى تلك الاتفاقيات فحسب، بل على العكس تماماً، فلأن صادرات الولايات المتحدة هي الأكثر توزيعاً عبر العالم، يمكن أن تتضرر المصالح الأمريكية لو أن مناطق التجارة الحرة أخذت تزدهر. ولتجنب مثل هذا الوضع، كان على واشنطن أن تقوم بإجراءين رئيسيين:
الأول أن تتوقف عن مساندة إنشاء الكتل الإقليمية.. إن مثل هذا القرار كان يتطلب أن تدرك أن سياساتها تجارة التجارة، وخاصة تلك التي تهدف إلى إنشاء منطقة تجارية حرة في نصف العالم الغربي هي التي ساعدت في حدوث عكس ما ترغب به تماماً، ألا وهو نشوء كتلة تجارية إقليمية في شرق آسيا، فاتفاقية التجارة الحرة في الأمريكيتين مهددة بالفشل منذ فترة لابأس بها، وبالأخص بعد ظهور المشاكل التي تواجهها البرازيل، ويمكن تحقيق أهدافها ضمن إطار منظمة التجارة العالمية.
الإجراء الثاني هو أن تستأنف الولايات المتحدة دورها متصدرةً العالم تجارياً في عصر ما بعد الحرب قولاً وفعلاً.. وبالتالي كان عليها أن ترفض أية فوائد قصيرة الأمد تظهر نتيجة الاتفاقات الثنائية أو متعددة الأطراف، وأن تعمل على تدعيم مبدأ التجارة متعددة الأطراف، التي تعني مبدئياً أن تضمن استمرارية وتقوية منظمة التجارة العالمية (والتي هي في الأساس فكرة أمريكية)، ولم تكن هذه المهمة سهلة لإدارات اهتمت إلى حد بعيد باتفاقيات التجارة الحرة.
إن كل خطوة إيجابية اتخذتها الولايات المتحدة لدعم التجارة قد جرى الترحيب بها على أنها طلب للعفو.. وقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل تنتهز هذه الفرصة، عندما أخذت تنادي بإلغاء التصرفات على كل البضائع التي تتبادلها الدول الأعضاء في منظمة التبادل والتنمية الاقتصادية.. بيد أن المبادرة باتباع سياسة هدفها إعادة التبادل التجاري متعدد الأطراف، والمتمثل بمنظمة التجارة العالمية إلى مركز الصدارة هي ما سعت له غالبية الاقتصاديين الأمريكيين..
وكما يرى هؤلاء الاقتصاديون فإن مبادرة كهذه تتطلب السعي الحثيث للوصول إلى اتفاق حول أساليب الزراعة، وقضاياها المركزية، وحرية الأسواق وإيجاد الحلول للتناقضات القائمة بين أعضاء منظمة التجارة العالمية.. ففي تصميم التجارة المتشابك الذي تمثله دول منظمة التجارة العالمية، والتي يصل عددها إلى نحو 150 دولة، تقع المسؤولية على عاتق أعضاء مهمين: الاتحاد الأوربي واليابان وكوريا الجنوبية واليابان والهند والولايات المتحدة طبعاً والصين.. لكل منهم مصلحة في ذلك، كما ظهر من فشل 50 عاماً من اتفاقيات الغات، وعليهم جميعاً أن يضحوا قبل أن يحصلوا على شيء بالمقابل.
إن منظمة التجارة العالمية ليست قوية بالدرجة المطلوبة، ومليئة بالتناقضات، ولكنها من ناحية أخرى، من ناحية المصالح الأمريكية، تظل أفضل الخيارات المتاحة لها. لقد بذل صنّاع القرار الأمريكيين جهوداً كبيراً في سبيل إنشاء نظام تجاري عالمي، والحد من انتشار الكتل الاقتصادية الإقليمية، لأنهم وجدوا فيه تحقيقاً لمصالحهم، وهذا النظام العالمي هو الموجود حالياً، وهو مهدد بالانهيار، بسبب السياسات الأنانية التي تتبعها الولايات المتحدة، وعدد آخر من الدول المتطورة لتحويل هذا النظام التجاري العالمي إلى نظام يخدم مصالحها على حساب مصالح الأكثرية الساحقة من الدول المنتمية إليه.