الهيمنة والتسلط جذر المآسي الإنسانية.. قراءة في مسرحية «مأساة طيبة» للفرنسي راسين

عني المسرح منذ بواكيره الأولى على يد الإغريق بالبحث عن جذر الآلام البشرية وبواعث الحروب، ودوافع الشر وانتهاكات حقوق الإنسان في العيش الآمن والحياة الكريمة، وشغلت المأساة مكان الصدارة في المسرح اليوناني والروماني، وفي مسرح العصور الوسيطة، وهي تشغل في العصر الحديث المكان الأبرز أيضاً.

وقد تأثر المسرح الأوربي بالمسرح الإغريقي، وطور تقنياته وأساليبه ولغته، وكان للمسرح الفرنسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر دور في تربية ذائقة الفئات الوسطى وشرائح النبلاء، وجذبها إلى المسارح، ولعب راسين وكورني دوراً مهماً في هذا المضمار.

ولد جان راسين عام 1639 وتوفي عام 1699 وشغف بالمسرح، وكتب تراجيديات عديدة من بينها مأساة طيبة، (آماليا وأندروماك، وبيرنيس، وله ملهاة واحدة هي (المترافعون) سخر فيها من فساد القضاء. 

نشأ راسين في دير قرب باريس، وتركت تربيته الدينية المبكرة أثراً على فكره ونتاجه الأدبي، وأدرك في أعماله المسرحية أن قيمة الأحداث الخارجية في المسرح هي قدرتها على كشف ما يعتمل في نفوس الشخصيات من عواطف متناقضة، وإضاءتها لأسباب الصراعات الداخلية والخارجية. مع أن شخصيات راسين بمعظمها هي من الملوك والنبلاء. إلا أنه يمكن إسقاطها على عامة الناس دون أن يتغير شيء من قيمة المسرحية.

في مسرحية أندروماك مأساة مكتملة العناصر: أندروماك الأسيرة، هي زوجة هيكتور الذي صرع في حرب طروادة، وهي وفية له. لكنها في قبضة الملك بيروس بن آخيل. وهي جميلة، ويطمع بيروس بالزواج منها، وهددها بقتل ابنها إذا لم تقبل. وتعده بالموافقة لكنها تخطط للانتحار بعد انتهاء الاحتفال، وهرميون المغرمة بابن آخيل، وأورست المغرم بها دون أن تميل إليه، وحين تكتشف هرميون أن ابن كريون نكث بوعده. تحرض أورست على قتله في المعبد ليلة الزفاف، وتعده بالزواج منه إن نفذ هذه الرغبة (الوحشية) لها. ويعود أورست مخضباً بالدم إلى هرميون، فتثوب إلى رشدها، وتصرخ في وجه أورست: أنت قاتل سفاح، وترفض العودة إلى أهلها، وتندفع إلى المعبد حيث حبيبها المسجى، بينما يصاب أورست بلوثة،  ويرى أشباحاً، فيبعده أحد أصحابه خارج القصر قبل أن يراه الحراس.

ومسرحية بيرنيس هي مأساة هادئة، لكن آلامها أقسى من طعنات الرماح، وحكايتها تدور حول أنتوخيوس ملك مقاطعة كوماجين، الهائم بملكة فلسطين بيرنيس. لكن الأخيرة هائمة بتيتوس الذي يحبها وهو يستعد لاعتلاء عرش روما، ويتعقد الموقف حين يحضر أنتوخيوس وبيرنيس إلى روما لحضور حفل التتويج (لأن المقاطعتين كوماجين وفلسطين تابعتان للإمبراطورية الرومانية). يتقرر زواج بيرنيس من تيتوس الإمبراطور لولا اعتراض وحيد لمجلس الشيوخ الروماني بعدم جواز اعتلاء ملكه أجنبية عرش روما، وينتظر العاشقان تيتوس وأنتوخيوس. أن يرق مجلس الشيوخ للأول فيزيل اعتراضه على الزواج ـ أو أن يتغير موقف بيرنيس من الثاني وتقبل به زوجاً، لكن الأمور في الحياة وفي الحب لا تجري بهذه السلاسة!

مسرحية (الشقيقان العدوان.. أو مأساة طيبة) عمل متكامل له طابع الملحمة، من حيث الشخصيات العديدة، وتعدد مساحات الصراع وتنوع العواطف، وتصادم المواقف وتأزمها، ترجمها إلى العربية أدونيس، وقدم لها الناقد الفرنسي المعروف رولان بارت، وصدرت عن دار التكوين بدمشق عام 2012. وهي نص يغوص في أسباب الكراهية، وجذر المآسي وأسباب الصراعات الدامية، ويلتقط نزعة الإمبراطوريات للهيمنة، وما تسببه من كوارث ودمار معمم.

وقد رأى رولان بارت أن علاقات الاشتهاء والسيطرة تستحوذ على مسرح راسين.

إنسان راسين ملاحق محاصر، يريد الانطلاق لكن التراجيديا تكبله، يواجه مآزق ـ ولا يعمل لحلها نتيجة نكوصيته، وزمن مسرح راسين دائري طقوسي، ينتج التكرار والجرائم، وتراجيديا راسين على النقيض من الأسطورة تجمّد التناقضات وتسعى ـ عند تهدم كل شيء ـ إلى التوسط والمصالحة مع العام. ص38.

أحداث المأساة تدور داخل القصر الملكي وخارجه، والشخصيات مشدودة برابطة الدم وتراتبية السلطة. لكن الكراهية وشهوة السلطة تجعل كلاً منها في متاهته وبيدائه، على حد تعبير دوريس ليسنغ، إيتيوكل ملك طيبة وشقيقه بولينيس منحا بالتناوب على العرش سنة بسنة حسب وصية أبيهما الملك الراحل، لكن إيتيكل الذي أنهى عامه الأول لا يريد التخلي عن العرش لأخيه، لأن بولينيس سيئ الطباع ويخشاه أهل طيبة. وتستسشعر الأم نذر التصادم بين الأخوين منذ المشهد الأول في المسرحية، وتفضي بمشاعرها لوصيفتها أولامب قائلة: هل خرجوا؟ آه أيتها الآلام القاتلة/.. منذ ستة أشهر وأهدابي مفتوحة للبكاء/ليت الموت يطبقهن إلى الأبد/ فلا أرى أحلك الجرائم/ لكن، هل تلاحموا؟ ص43.

الأم جوكاست، وأخت الشقيقتين المتناحرين أنتيغونا، والخال كريون المراقب للصراع، والطامع بالسلطة رغم تظاهره بالبحث عن حل للصراع وطمأنة أخته، وابنه هيمون عاشق لأنتيغونا، ومستعد أن يعمل ما في وسعه لمنع الصدام بين الأخوين وجيشيهما من أجل حبيبته، يحاولون جميعاً إيجاد مخرج من هذا الوضع المتأزم المنذر بالانفجار.

المسرحية في خمسة فصول وستة عشرين مشهداً، والمسرح الكلاسيكي يسير بحسب هذا البناء غالباً، تشعل الكراهية المتأصلة قلب إيتيوكل نحو أخيه بولينيس، وكأنها زرعت منذ كان في الرحم بحسب تصور الأم القلقة، فالعائلة الملكية نكبت أكثر من مرة، وهذه النكبة ستكون الكبرى، وعملت جوكاست على جمع الأخوين في حضرتها، وأملت أن يساعد ذلك في إزاحة الكراهية، ومنع التصادم الدامي، لكن اللقاء أذكى الكراهية إلى حدها الأقصى، وتمسك كل من الأخوين بحقه في العرش، ولن يحسم الأمر إلا السيف، وأسقط في يد الأم، وفضلت أن تقتل نفسها على أن ترى ولديها يتحاربان، واندفع الفارس هيمون إلى ميدان المعركة، وحاول أن يوقف الصراع لكن السيوف صرعته، ويسقط الملك إيتيوكل مضرجاً بدمائه، ويتقدم بولينيس منه متشفياً لينتزع سيفه، لكن الآخر يغرز سيفه في قلبه، ويسقط الإثنان، ولا تحتمل الأخت أنتيغونا ثقل المأساة ومصرع أحبتها، فتمسك بمدية أمها وتلحق بهذه الأسرة التعيسة، وكان مينسيا شقيق هيمون قد فعل مثلها، حين لم يلتفت اليونانيون وأهل طيبة لصرخته المدوية: (توقفوا، توقفوا،أيها المتوحشون! ص74).

أما كريون الذي وقف على كومة الأشلاء: ولديه، وأخته وأولادها الذين تسبب بهلاكهم من أجل الطمع بالعرش، فقد صرخ قبل سقوطه: هؤلاء كلهم تعساء، وآخرون كثيرون كنت سبب آلامهم/ يفعلون الآن في قلبي فعل الجلادين/ قفوا.. إن موتي سيثأر لهلاككم/ إنني أقاسي آلاف العذابات المختلفة/ وها أنا ذاهب ألتمس راحتي في الجحيم! ص116.

نص حافل بالتوتر الدرامي يشد القارئ أو المتفرج إلى بنيته المتماسكة، وصوره الشعرية ولغته الأنيقة: تقول جوكاست لابنها إيتيوكل المتمسك بالعرش، مع أن الوصية تمنح الأخوين التناوب على العرض سنة بسنة: أيها القلب الجاحد العاتي/ ألا شيء إزاء التاج يؤثر فيك؟/ للجريمة وحدها مفاتن تخلبك إذن، ما دمت مأخوذاً بها إلى هذه الدرجة/ فأنا أعرض عليك أن ترتكب جريمة مزدوجة: اسفك دم شقيقك، إذا لم يكفك/ أدعوك أن تسفك دمي أيضاً/ حينذاك لن يبقى لك عدو تخضعه/ وإذ لايبقى أي منافس لك يتطفل على العرش/ فإنك بين المجرمين تصبح المجرم الأعظم. ف1 ـ م3 ـ ص 48 ـ 49. تتسارع الأحداث وتزداد توتراً حين تبلغ أوليمب وصيفة جوكاست أنتيغونا وهيمون نبوءة الآلهة: (لكي تنتهي الحرب، يا أهل طيبة/ لا بد، وذلك أمر محتوم/ أن يخضب أرضكم بموته/ آخر من يجري في عروقه الدم الملكي! ص62.

المقدمات كلها تقود إلى المأساة: العرش الذي صنعته القوة لا حب الشعب، والطمع بالملك الذي يتجاهل روابط الإخوة والأمومة والصداقة، ويعمي الطامع به، فلا يرى وسيلة لارتقاء العرش إلا السير فوق الأشلاء والدماء، والنبوءة التي تعد أسوأ من الحرب، والكراهية التي لم تزحزح صخرتها القاسية توسلات جوكاست وأنتيغونا، ونصائح الخال كريون، وتضحية مينسيا وموته النبيل، أو تضحية الأم اليائسة التي لم تطق رؤية الكارثة.

شخصيات مرسومة بعناية، تسير نحو خاتمة مأسوية، لا تستطيع الفكاك من أهوالها، وحوار شعري منبري يطول حيناً حين يتعلق الأمر بالنجوى أو الإقناع، ويسرع حيناً ليواكب تسارع الأحداث.

واقع التراجيديا لدى راسين هو الكلام، ومهمته التوسط في علاقة القوة كما رأى رولان بارت، ففي عالم منقسم بشكل لا زحمة فيه، لا يتواصل البشر إلا بلغة الهجوم يصنعون لغتهم ويتكلمون انقسامهم، وتقوم اللغة بدور المصراع بين الأمل والخيبة، وترسم اللغة العالم العذب والمخيف للتقلبات التي لا تنتهي، والمحتملة إلى ما لا نهاية (المقدمة ص37).

وراهنية مسرح راسين تعود إلى قدرته على استشراف التحولات الاجتماعية، وعمق معرفته بالنفس الإنسانية، وثقافته المسرحية والتاريخية التي جعلته واحداً من أعمدة المسرح الكلاسيكي الأوربي.

العدد 1140 - 22/01/2025