التعليم في سورية إلى أين؟
التعليم والعلم بالنسبة للمجتمعات هو أساس التقدم الحضاري، وهذه بديهية. ولا يأتي العلم من دون التعليم الذي هو المحرّك الأساسي لتطور أي أمة. لذلك نرى بوضوح أن أحد أهم الفوارق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة هو نسبة التعليم وجودته، ولا تبتعد القوة الاقتصادية والعسكرية وقوة العدالة وقوة النسيج المجتمعي كثيراً عن هذه المقارنة.
من المقدمة السابقة نلقي الضوء على مؤشر جودة التعليم العالمي الذي صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لعام ،2017 وشمل 140 دولة. يرتب هذا المؤشر دول العالم وفق 12 معياراً رئيسياً، وحوالي 40 معياراً فرعياً. هذه المعايير معايير دقيقة ومحددة بأسس علمية وتربوية وتعليمية رصينة، وهي ذات أهمية كبيرة، إذ إنها تقدم معلومات تفصيلية ودقيقة عن واقع سير العملية التعليمية في البلدان التي يغطيها المؤشر، وتشمل: المؤسسات، البنية التحتية، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، بيئة الاقتصاد الكلي، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، الابتكار، تطور الأعمال، كفاءة أسواق السلع.
أظهرت بيانات هذا المؤشر لعام 2017 نتائج صادمة، فقد شغلت فيه أغلب الدول العربية مراتب متدنية، وطبعاً نتائج هذا المؤشر ليست الوحيدة، إذ إن هناك العديد من المؤشرات العالمية والدراسات التي تبين وللأسف أن الواقع التعليمي العربي والمحلي غارق في المشاكل، لذلك من السخرية ان ننسب هذه الدراسات والمؤشرات، ومنها مؤشر دافوس، إلى نظرية المؤامرة التي عوّدنا عليها المطبّلون في الإعلام الرسمي العربي والمحلي. هذا واقع أليم، وعلينا أن نكون جريئين في الاعتراف بحقيقة تدني مستو التعليم في بلادنا، وهناك عدد غير قليل من الدلائل الواضحة التي نراها في حياتنا اليومية يمكن أن تؤكد صحة هذه المؤشرات، مثلاً أعداد الطلاب الهائلة في الصف الواحد، التسيّب المدرسي، الغش في الامتحانات، سوية الحالة المادية والمعنوية المتدنية للمعلمين، الضعف التكنولوجي، وغيرها الكثير من المسائل. ومن نتيجة هذا التردي قامت معظم الأسر على حساب قوتها ورفاهيتها بمحاولة سد التراجع التعليمي في المدارس، بطرق متعددة أوسعها انتشاراً هي الاعتماد، بدلاً من المدارس، على الدروس الخصوصية التي أصبحت حالياً ثقافة أُسَريّة سورية عامة، وهذا مكمن خطرها.
وفيما تسعى دول العالم الحليفة قبل البعيدة، بكل طاقاتها، لتحقيق أفضل عملية تعليمية، لم نر من المؤسسات التشريعية أو التنفيذية في سورية سوى الطابع الاستعراضي، من قبيل شعارات التطوير والتحديث، والتقوقع في إيديولوجيات متصحّرة مازالت تهيمن على البرامج والخطط وفق نظرية الرأي الواحد، يقودها مختصون من لون سياسي واحد، معظمهم من منظومة إدارية شديدة الفساد والبيروقراطية. إن الهدف الرئيسي للتعليم هو تحرير الإنسان وتقدُّمه، وليس تفسير الإيديولوجيا أو تطبيقها، سواء كانت سياسية ام دينية، أو بناء المناهج وتفسيرها وفق رؤية السلطة وليس وفق رؤية الوطن، فالسلطة متبدّلة، أما الوطن فباقٍ. النظام السياسي للاتحاد السوفياتي ذهب بينما المنهج التعليمي والعلمي لمؤسساته بقي، وحافظت من خلاله روسيا الحالية على تفوقها العسكري والفضائي ومجالات أخرى عديدة. أما في بلادنا فالواقع هو أنه لم يُنظَر يوماً إلى التعليم كمحور من محاور التنمية. وفي الوقت الذي تعتبر دولة عدوّة لنا كإسرائيل وزارة التعليم فيها على أنها واحدة من الوزارات الأربع السيادية، لم تنظر حكوماتنا المحلية إلى أهمية هذه الوزارة، حتى المختصون بالتربية والمنوط بهم معالجة هذه المهمات، لم ينظروا نظرة جدّية ووطنية إلى المشاكل المتعددة الموجودة في النظام التعليمي المحلي. والحقيقة هي أننا لم نرَ سوى أكذوبات التطوير والتحديث، إذ مازالت العملية التعليمية قائمة على الحفظ والتلقين، لا على التفاعل والإبداع. إن الالتزام بالقانون، ومفاهيم الحق والواجب، والتنظيم، والانضباط، والتأقلم، وتقبل الآخر، وروح العمل الجماعي، والحفاظ على الأملاك العامة، وغيرها من القيم النبيلة، لا يمكن تحصيلها وترسيخها إلا عبر التعليم ثم التعليم في المدرسة، ولا يمكن تحصيلها في ظل النظام التعليمي القائم حالياً في سورية. فالعلم هو (طريقة وأسلوب للتفكير أكثر من مجرد كمية من المعلومات)- على ما يقول المفكر كارل ساغان.
منذ منتصف الثمانينيات حتى بداية التسعينيات، لعبت سورية دوراً يعادل عشرات أضعاف حجمها على الساحة الدولية، بحسب صحيفة دير شبيغل الألمانية عام ،1985 كما سميت بأنها أكبر دولة صغيرة في العالم- كما قال أحد الدبلوماسيين الكبار في البيت الأبيض. من أسّس لهذا الدور؟ طبعاً هي مجموعة من العوامل، لكن أهمها كان الاهتمام بالعملية التعليمية والتدريب وتأهيل الكوادر.
للأسف الشديد نلاحظ أن سورية والعراق ومصر التي قادت التعليم عربياً منذ خمسينيات القرن الماضي حتى بداية الألفية الجديدة نجدها قد سقطت. فمصر جاءت بالمركز 139 من أصل 140 في مؤشر دافوس لعام ،2017 في حين لم تدخل سورية والعراق في الترتيب أصلاً، وذلك لافتقارهما بحسب التقرير: (لأبسط معايير الجودة في التعليم).
مرة أخرى لنكن جريئين ولنقرأ مؤشر دافوس بواقعية بدلاً من الاستهزاء به وتمويه الناس بنظرية المؤامرة، ولنقُل صراحة إن هناك ضرورة قصوى ولا تقبل التأجيل لمراجعة السياسات الحكومية في سورية في مجال التعليم، ووضع أسس أكثر انفتاحاً على العالم الذي بات يسبقنا كل يوم بخطوة.