يوم قابلت رئيس التحرير
صباح كل يوم سبت، وبينما أنا في ذروة توتري وانشغالي بالمادة التي سأرسلها إلى الجريدة، يرن جهاز المحمول في التوقيت نفسه ، ليأتيني الصوت الهادئ الوقور: (كيفك ست هيفا… لم ترسلي لنا شيئاً اليوم؟) عندئذ ألجأ إلى الكذبة الأقرب مدعية بأن المادة جاهزة لكن انقطاع الكهرباء أعاقني عن إرسالها، فيتابع: لا بأس، على مهلك، ولكن لا تنسي إرسالها. وحالما أغلق المحمول أسرع إلى مادتي مصممة على كتابتها دون تلكؤ مهما كانت مشاغلي اليومية كثيفة، يدفعني إلى ذلك شعور قوي بالمسؤولية يخلقه لدينا التعامل مع الشخصيات الصادقة والمخلصة في عملها. السبت الفائت افتقدت الصوت المعتاد، وفي يوم الأحد أيضاً لم أسمعه، بل جاءني صوت آخر ليبلغني نبأ الرحيل المحزن، والذي كان مفاجئاً، نظراً لما كان يبديه الفقيد من نشاط وهمة لا تنبئ بأي عارض مباغت.
لا أحب الرثاء، ولكننا لا نملك إلا الذكرى إزاء الراحلين، لذا عادت ذاكرتي فوراً إلى اللقاء الأول الذي جمعني بالأستاذ باسم عبدو، كنت في زيارة للجريدة التي بدأت أكتب فيها، وبينما أجلس في واحد من مكاتبها الصغيرة التي تشعر الإنسان بالألفة، إذ دخل الأستاذ ليسأل عن شيء ما، فقدمني إليه أحد الزملاء باعتباري من الكاتبات الجدد في الجريدة، رحّب بي، وتكلمنا عن بعض نقاط العمل،مقدماً إلي بعض الاقتراحات المفيدة، وما أثار إعجابي وقتذاك هو رؤيتي لرئيس تحرير صحيفة يجول بين مكاتب زملائه باعتباره واحداً منهم، بينما الصورة التي نعرفها لرؤساء التحرير هي أن (يتمترس) واحدهم وراء مكتبه الضخم الفخم رافضاً التزحزح من هناك، وكأن شخصاً آخر سيركض ويحتل مكانه فوراً لو تحرك! مكاتب يصعب اجتياز أبوابها وحجّابها، وإن أسعفك الحظ واستطعت اجتيازها، وحظيت بمقابلة (الصدر الأعظم) القابع خلفها، فإن المقابلة ستكون حتماً بلا طائل، مع أنك لن تطلب شيئاً سوى أن تكتب على صفحاتها.
في زياراتي التالية لجريدة (النور)، صرت أشعر دوماً بأني في بيتي وبين أهلي، وصار من المألوف لدي أن أرى رئيس التحرير جالساً مع زملائه في مكاتبهم يبادلهم الأحاديث والآراء بروح أخوية بسيطة، فصرت أتساءل ثانية: ولم لا يكون الوضع هكذا في كل الصحف؟ كم كان الوضع سيختلف لو تعامل هؤلاء معنا بهذه الروح الجميلة، بدل الروح الإقطاعية التي تجعلهم ينظرون إلى المؤسسة التي يديرونها باعتبارها ضيعة ورثوها عن أجدادهم!
وما أكثر الآمال الشابة التي خابت منذ مطلع حياتها، لأنها لم تجد الفرصة للتعبير عن نفسها! فكان أن تاهت في دروب صحافة صفراء لا أصالة لها ولا هدف سامياً تحمله، أو تشتّتت في مفارق حياة ومهن لا علاقة لها بالصحافة، إلا كعلاقة جدتي بعلم الذرة!
حقيقة لم نكن بحاجة إلا لبعض التشجيع والتحفيز الذي افتقر إليه الكثيرون، والذي كان الفقيد غنياً به، مما جعلنا نستمر بالعمل رغم كل الصعوبات، وأذكر في إحدى المرات، وأمام زملائي أن خاطبهم الأستاذ مشيراً إلي: يجب أن تمنح جائزة خاصة لكونها موظفة وأم لأربعة أطفال، وفوق ذلك تقدم للجريدة مواد جميلة… وقتذاك أحسست بأني قد نلت وساماً رفيعاً، وأمدّني بقوة وإيمان أشد تجاه عملي. وربما مما يؤسف له أن نكتشف بعد فوات الأوان أننا لم نقدم الشكر كما يجب لمن يستحقه، إذ يكون الموت أسرع منا، فشكراً لك يا أستاذنا، وسلاماً لروحك التي ستبقى معنا!