التجربة والحنكة ودورهما في التأليف

يستعجل بعض الكتاب، والشباب منهم خاصة دفع مخطوطاتهم إلى النشر، قبل أن يتمكنوا من أدواتهم، وقبل نضج تجربتهم الحياتية والمعرفية، وقد انتبه كتاب كبار إلى هذه المسألة، وأعادوا النظر فيما كتبوه وصنفوه، أو صرحوا بما حوته كتاباتهم من ثغرات، قبل أن يتناول النقاد هذه المؤلفات بالتمحيص والتدقيق. وسنقف عند تجارب في هذا المضمار تضيء هذه القضية الشائكة.

كتب عبد الملك بن محمد الثعالبي (350-429 هـ) صاحب (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) في مقدمة مؤلفه الذائع الصيب، أنه أعاد النظر مراراً في اختياراته، وأجرى تعديلات كثيرة على الكتاب قبل دفعه إلى القراء، وقد غطى الكتاب الإبداعات الشعرية لأعلام القرنين الرابع والخامس الهجريين، فقال: (فجعلت أبنيه وأنقضه، وأزيده وأنقصه، وأمحوه وأثبته، وأنتسخه ثم أنسخه، وربما أفتتحه ولا أختتمه، وأنتصفه فلا أستتمّه، والأيام تحجز، وتعد ولا تنجز، إلى أن أدركت عصر السن والحنكة، وشارفت أوان الثبات والمسكة.. واستمررت في تقرير هذه النسخة الأخيرة، وتحريرها من بين النسخ الكثيرة، بعد أن غيرت ترتيبها، وجددت تبويبها، وأعدت ترصيفها، وأحكمت تأليفها).

ورغم جهود المؤلف في التبويب والتصحيح والحذف والإضافة، ونضج تجربته، فإنه لم يكن واثقاً بأن مؤلفه بلغ الكمال، وكان أول البادئين بالإشارة إلى بعض النواقص، وترك للمحققين والنقاد الحق في أن يلتمسوا له العذر في الثغرات التي يقعون عليها. وهل هناك عمل أصعب من عملية البناء والهدم والتابة وإعادة النظر فيها؟

والمستعجل في التأليف والنشر يظلم القارئ، ولا يضيف جديداً، إلى الحقل المعرفي والجنس الأدبي الذي يكتب فيه، ويظلم نفسه.

وفي رسالة بعثها المبدع الروسي دوستويفسكي من سجنه بالقلعة إلى الناقد واللغوي سولوفييف، وتحدث فيها عن حماسته للكتابة، وأفكار القصص التي يشتغل عليها، قال: إن في طبيعة الإنسان حيوية مدهشة، وما كان لي أن أصدق ذلك، ولكني أعرفه الآن بالتجربة.

وغنى التجربة الحياتية والمعرفية،  وآراء النقاد المتخصصين تصقل موهبة المبدع والمؤلف، وتحفزه لإمعان النظر في موضوعاته وأسلوبه، وتجرئه على إعادة الصياغة، وتقوية مواضع الضعف، وتصويب الأخطاء، وتخليص نصوصه من أي تزويق أو تكلف، وكان الناقد الروسي الشهير بيلينسكي قد سجل ملاحظات جدية على قصص فيودور دوستويفسكي التي كتبها في شبابه، ورأى فيها تكلفاً واضحاً وبعداً عن الواقعية، التي غدا عدد من الأدباء الروس، وفي طليعتهم تولستوي وتوجينيف ودوستويفسكي وتشيخوف، من أعلامها البارزين.

ويظهر في السير الذاتية للكتاب والمبدعين دور نضج التجربة وتطور تقنيات الأسلوب في كتاباتهم، والعوامل التي صقلت موهبتهم، وأثرت فيما صاغوه من أعمال مهمة نالوا عنها أرفع الجوائز.

ويذكر غابرييل غارسيا ماركيز في سيرته المعنونة (عشت لأروي) كيف كان يعيد صياغة الحكايات التي يسمعها من الكبار وهو طفل، ويضيف عليها من نسيج مخيلته، ويقصها من جديد على الذين رووها فيدهشهم.

يقول: (منذ سن الرابعة كنت أمزج حكايات الكبار بتفاصيل متخيلة، حتى أحاديثهم المشفرة كنت أمتصها مثل إسفنجة، وأفككها إلى أجزاء، وأقلبها كي أخفي الأصل، وعندما أرويها للذين رووها على مسامعي تتملكهم الحيرة بين ما أقوله ومايفكرون فيه).

ويشير ماركيز إلى تأثير الأصدقاء وكتب المبدعين الكبار على تجربته، وطريقته في الكتابة، فيقول: (صديقي خوسيه ألفارو سبينوزا طالب الحقوق وضع أمامي سفراً ضخماً مرعباً، وأصدر حكمه بسلطة مطران: (هذا هو التوراة الجديد)، والكتاب هو (أوليسيس) لجيمس جويس، فقرأت منه فقرات، وتبعثر. وبعد سنوات من ذلك حين صرت ناضجاً ونقاداً، عكفت على قراءته بجد، ولم تكن قراءته مجرد اكتشاف عالم خاص لم يخطر لي يوماً وجوده في داخلي، وإنما كان مساعدة تقنية ثمينة في حرية اللغة ولعبة الزمن وبناء كتبي!) (عشت لأروي ـ ص 7).

وسمى ماركيز كتباً بعينها تركت تأثيرها على مسار حياته، وكتاباً حفزوه على كتابه رواياته، ومن بين الكتب: كتاب (ألف ليلة وليلة)، الذي اطلع عليه بترجمة مزيفة، وكتاب (المسخ) لفرانز كافكا، وكتب الكتاب الأمريكيين، وقال: (بدأت أقرأ ككاتب حرفي حقيقي، ليس للمتعة وإنما بدافع فضول لا يرتوي إلى اكتشاف كيف كتبت أعمال الحكماء.. قرأتها وشرحتها وتوغلت في أشد أسرارها خفية). (عشت لأروي ـ ص 159).

ولا يكتفي ميلان كونديرا، التشيكي المهاجر إلى الغرب بذكر الكتاب الذين أثروا في رؤيته لجماليات الفن الروائي: تولستوي ودوستويفسكي وبيكيت وسيلين ورابليه ومالا بارت وكافكا وشاموازو، إذ يضيف إليهم مبدعين كثيرين في الرسم والموسيقا والإخراج السينمائي والمسرحي، ومن بينهم فرانسيس بيكون الرسام البريطاني، وأوسكار ميلوش المؤلف السيمفوني التشيكي، وليوس جاناسيك المؤلف التشيكي للأوبرا والشاعر أراغون، وخوان رولفو الأب الروحي للواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، وغوميروفيتش وبروست وكوكبة طويلة من المبدعين.

ويطرح جورج سيمنون الروائي البلجيكي السؤال المحير للكاتب بعد رحلته الشاقة مع حزمة الكتابة: لماذا أغوص في زحمة أشباهي الذين كان علي أن أتعلم منهم كل شيء، بدلاً من أن أفتح الباب وأمضي خارجاً؟ لماذا أحبس نفسي بهذه الصورة.. وأتشبث بأن أحكي قصة؟ ويقدم إحدى الإجابات قائلاً: تحت كل السماوات وفي كل المناخات، وفي كل الأنظمة، في عهود الطغاة كما في عهود الجمهورية، اعتزل رجال ونفوا أنفسهم عندما لم يتعرضوا للموت، لتلبية هذه الحاجة إلى الكتابة. ويضيف: كم من بلزاك وكم من دوستويفسكي استماتوا، ليلة بعد ليلة، في شروط تكاد أن لا تحتمل ليرووا قصصاً!

هل هي الحاجة أم هو الشغف أم الفضول الذي يدرك مبعثه ما يدفع الكاتب إلى ولوج صندوق أسرار الإبداع وجحيم حرفة الكتابة دون انتظارمعجبين أو أوسمة أو تقدير لمغامرته؟

نضج التجربة والحنكة قد تقودانه إلى إجابات أخرى يصبها في اعترافاته المتأخرة، وقد يخفي سرها كي يحزره مبدعون سواه على حد تعبير دوستويفسكي في حديثه عن بوشكين!

العدد 1140 - 22/01/2025