سآتيك متأخراً أيضاً
لم يأتني صوتك هذا الأحد أيضاً: أين مادة (شرفات)؟
هكذا أيضاً…لم يتسنَ لي أن أعدك بإرسالها مساء، ثم أتأخر إلى صباح اليوم التالي لعلة في الكهرباء العليلة غالباً، أو لكسل مزروع في الخلايا، أو لوعكة حب عابرة…
الأحد قبل الفائت، وحالما شاهدت رقم (النور) على الموبايل قلت: إنه (أبو شفيع) سيسأل كما هي العادة، وكان الجواب المعتاد حاضراً: (اليوم مساء سأرسلها)، لكن جاءني هذه المرة صوت الصديق النبيل محمود هلال، كان مثقلاً بالحزن، لم أتركه ليسأل، أعطيته الجواب الجاهز…لكنه تلكأ قليلاً ثم أخبرني برحيلك…
وكما هي العادة تأخرتُ عليكَ هذه المرة أيضاً أبا شفيع…
لم أخاطبك وأنت خارج التراب، لم أفسد خلوتك الأخيرة مع الضوء، أعرف أنك كنت تتأمل الأوراق التي لم تكملها، مشاريع المقالات القادمة، القصص التي كان أبطالها يلحّون عليك كي تريحهم من انتظار مصائرهم، فيما أنت بهدوئك المعهود تمهلهم ريثما ننتهي من إخراج (النور)، ثم…ريثما نصدر العدد الجديد من (الأسبوع الأدبي)، ثم… لا بد من تأمين متطلبات البيت والعائلة، فيبقى أبطالك مشدودين إلى قلم أو إلى قلب لا يلبث أن يعود إليهم، يتأملهم في حب، ثم يدفعهم إلى أقدارهم المحتومة….
كان لا بد من أن أتأخر عليك هنا أيضاً، لأكتب عنك، لا لك، هذه المرة وأنت تحت التراب، ولطالما كتبتَ عن حب هذا التراب!!…
نحن الذين نرفل في موتنا اليومي نفاجأ بموت الأحبة وكأن الموت ليس ضيف سورية اليومي الثقيل منذ خمس سنوات عجاف…لا لشيء سوى لأننا نحبهم، نتوقع منهم أن يبقوا معنا لنشهد ولادة جديدة لهذه الـ(سورية السعيدة كمدفأة في كانون… التعيسة كعظمة بين أسنان كلب..) كما قال عنها رياض، الشاعر الذي لم يكبر سوى في القصيدة، نتوقع منهم أن يشيعونا هم إلى موت يكمن لنا على الأرصفة وفي الحدائق والأسواق وفي أحلامنا أيضاً، لم تعد لنا أحلام.
هل قلت (أحلام)؟!..
لا ليس ثمة أحلام هنا، هي محض كوابيس أورثتنا إياها هذه الحرب العمياء.
كنا ونحن نلوك خلافات موهومة بين تنظيمات فرّخها حزب واحد وقائد واحد أحد فرد صمد، ننظر أحدنا إلى الآخر من تلك البوابة الضيقة: (هذا من جماعة فلان)، فتبدأ الأحكام المسبقة، وتسدّ سبل الحوار والتواصل بين من ينهلون من نبع واحد، وحالما عرفتك في (النور) لُمْتُ نفسي كثيراً على أني لم أسعَ لمعرفتك قلباً لقلب، حين كانت بغضاء العشائر تبني جدرانها بيننا، كما لم أسعَ للتعرف إلى الرفاق في (النور) التي تميّزت منذ بدايتها، ولم تقبل أن تكون منشوراً حزبياً ضيقاً يلوك ماضياً فيه الأبيض المشرف، وفيه من السواد ما يحتاج إلى أنهر لغسله من أدران الصمت…
اختلفنا مراراً، وأذكر مرة احتد الخلاف بيننا وارتفعت أصواتنا، لكنكَ في اليوم التالي كنتَ، كعادتك، مغسولاً بماء الوداعة والألفة، محوتَ كل ما كان بمصافحة وابتسامة…
سريعاً تعب القلب أبا شفيع.
تعب القلب وما زال في الطريق متسع للمزيد من التعب نتقاسمه، وننحت منه صورة لبلاد قادمة لا تنام على صرخات الجياع والمقهورين والمظلومين…
تعب القلب، والنهار بطيء الخطا في مدلهم الليل الذي نحيا…
صديقي الكبير…ها أنت تغمض عينيك، فيما روحك لا تغمض، ترتل لمن أمضيتَ العمر وأنت تنتقي أجمل كلماتك له، لوطن يحيله القهر إلى منفى، فتفك بالكلمات أسر الحلم وتطلقه في برارٍ فسيحة…
أبا شفيع…لروحك الوديعة الهانئة كل السلام…
وهنا في (النور) سنبقى ونغني ونصرخ ملء أرواحنا للوطن، للحرية، للفقراء…