تدوير النفايات إبداع وثقافة تبني مجتمع بعد الحرب

لم تستطع الحرب بظروفها القاسية أن تقتل الحياة داخل الإنسان السوري الذي مازال حتى اليوم يكافح بصمود قاهراً كل ظروف الفقر والظلم والوجع، وكما للحرب وقادتها فنون في التخريب والقتل والتدمير، كذلك للإنسان الكادح إبداع في ابتكار طرق تبقيه على قيد الحياة، إبداع في خلق الأمل بصور جديدة فيها عشق الوطن والتمسك به رغم كل شيء.

يجول سعد وأخويه حاملين أكياسهم منذ الصباح الباكر على حاويات القمامة باحثين ضمن أكوام المخلفات عن كل ما يستفاد منه للبيع، فيتولى كل واحد منهم فرز مادته ووضعها في كيسه، سعد مهمته جمع العلب البلاستكية، وأخوه الصغير يجمع عبوات الزجاج والتنك، أما أختهم فتجمع قطع الفلين والكرتون ، وهكذا يمضون وقتهم في ذلك الحي اللاذقاني حتى ينتهون من العمل مالئين أكياسهم، وفي سؤالنا لهم لماذا يجمعون النفايات، ولا يذهبون للمدرسة؟ قال سعد بصوته البريء : نحن مجبرون على العمل كي نعيش، فأبي قد مات وأمي مريضة ولدي إخوة صغار، ولم أجد عملاً فاتجهت لجمع النفايات أنا وإخوتي، نجمعها ونبيعها ونتقاضى مقابل ذلك مبلغاً من المال يؤمن لنا معيشتنا.

لقد أصبحت إعادة التدوير مهنة لأصحاب المنشآت العاملين في هذا المجال أو لمن يجمعون المواد القابلة للتدوير، وقد زادت أهمية إعادة التدوير في ظل ندرة بعض السلع وارتفاع أسعار معظمها، وعلى رأسها المحروقات، وأصبح الفقراء ممن لا يجدون عملاً يتدبرون حلولاً اقتصادية ذات جدوى متوفرة في البيئة المحيطة، فجاءت عملية إعادة التدوير كإجراء يلبي بعض المتطلبات الضرورية عبر الاعتماد على المواد التالفة أو غير المستخدمة، والاستفادة منها في استخراج مواد صالحة للاستهلاك البشري.

صناعة التدوير

وسيلة من الوسائل التي تساهم في المحافظة على البيئة، عن طريق إعادة استخدام المخلفات التي تنتج عن المواد المُستخدمة في المنزل، أو العمل، أو المدرسة، وغيرها، وتطبق من خلال الاستفادة من بقايا المواد المصنعة، كالعُلب البلاستيكية، أو الزجاج، أو الورق، وغيرها من الوسائل الأخرى ، وقد انتشرت فكرة إعادة التدوير في القرن العشرين، بعد انتهاء الحروب العالمية؛ بسبب عدم توافر كميات مناسبة من الموارد الأولية، مما ساهم في ظهور هذه الفكرة التي تهدف إلى استخدام كل شيء مستخدم، ويؤدي إلى تحقيق فائدة ما، ومع الوقت قام بعض الأشخاص الذين يعملون في الصناعة، بالاستفادة من إعادة التدوير، وتحويلها من مجرد فكرة إلى وسيلة إنتاج صناعي تساهم في تصنيع العديد من المواد الجديدة، والمستخرجة من المواد المستخدمة مسبقاً، وامتازت هذه الطريقة بتكلفة إنتاجية أقل، مقارنة باستخدام المواد الخام ذات التكلفة المرتفعة.

فوائد اقتصادية

لعملية إعادة التدوير فوائد بيئيّة واقتصاديّة واجتماعيّة كبيرة جدّاً، وتُعتبر أفضل طريقة على الإطلاق للتخلّص من النّفايات والحفاظ على سلامة البيئة والإنسان، لذلك، انتهجت كثير من دول العالم المُتقدّم سياسات إعادة التّدوير للتخلّص من النفايات، ومن فوائد عمليّة إعادة التّدوير ما يأتي:

1- المُحافظة على نظافة البيئة بالدّرجة الأولى من أضرار طمر النّفايات أو حرقها أو تركها مكشوفة.

2- التّقليل من تلوّث مياه البحار والمُحيطات والأنهار من رمي النّفايات الصّلبة فيه، وتهديد الأحياء البحريّة، كما تُقلّل من تلوّث المياه الجوفيّة من عصارة النّفايات النّاتجة عن طمر النّفايات.

3- المُحافظة على نقاء الهواء الجويّ من انبعاثات حرق النّفايات، إذ تُفرز عملية الحرق كميّات كبيرة من الغازات السامّة وثاني أُكسيد الكربون الذي يزيد من مشكلة الاحتباس الحراريّ.

4- تقليل الطّلب على الموادّ الخام، وبالتّالي استمرارها لفترة زمنيّة أطول.

5- تحقيق عوائد اقتصاديّة وأرباح من المواد الخام المُعاد تصنيعها، وتقليل نسبة البطالة بتوفير فرص عمل للشّباب في شركات إعادة التّدوير.

6- توفير الطّاقة التي تُستهلَك في استخراج الموادّ الخام ثمّ تصنيعها، إذ إنّ عمليّة التّدوير هي نصف عمليّة تصنيعيّة فتستهلك الطّاقة بشكلٍ أقلّ.

7- تحقيق مبدأ التّنمية المُستدامة من أجل المُحافظة على البيئة، وتقليل استهلاك الموادّ الخام من أجل الأجيال القادمة.

8- تقليل الأمراض وتكاثُر الميكروبات في التجمّعات السُكانيّة نتيجةً لفصل النّفايات العضويّة واستخدامها كسماد مُفيد للأرض.

9- توفير المبالغ المالية التي كانت تصرف على مَكبّات النّفايات وعمليّات الطّمر.

تدوير البلاستيك بين الصناعة واستخراج المشتقات النفطية

تعتبر عملية إعادة تدوير البلاستيك مهمة جداً للاقتصاد إذا استثمرت بشكلها الصحيح، وتتوزع عملية إعادة تدوير البلاستيك إلى اتجاهين الأول وهو إنتاج المحروقات البديلة، بتسخين القطع البلاستيكية وأكياس النايلون ضمن مرجل حتى تتحول إلى الحالة الغازية، ثم تبدأ عملية تقطير وتبريد للغاز المنبعث ويكون البنزين هو المادة المستخرجة الأولى، ويليه المازوت، كما يُضغط الغاز المنبعث ضمن أسطوانات تفيد في الاستعمال المنزلي. فعملية تقطير البلاستيك واستخراج المشتقات النفطية تعمل على توفير عدد كبير من فرص العمل، لكن سلبيتها تكمن في ضررها الكبير جداً على البيئة وعلى العاملين فيها.

 أما الاتجاه الثاني في إعادة تدوير البلاستيك فهو إعادة تصنيع بعض الأنواع البلاستكية القابلة لإعادة التدوير، والتي يستفاد منها في الكثير من نواحي الحياة، كصناعة أنابيب الري بالتنقيط والتي تساعد في توفير كميات المياه المستهلكة في ري الأراضي، إضافة إلى صناعة الأحذية والصناديق الخاصة بتعبئة الخضراوات والفواكه.

تعتبر عملية إعادة التدوير خطوة جيدة رغم كلفتها، ولكن لا بد من الانتباه لضرورة عدم استخدام المنتجات المعاد تدويرها في المواد الغذائية، ففيها مواد سامة وتؤذي الصحة، لذلك يجب صناعتها تحت إشراف صحي لوزارة الصحة ومديرياتها.

تدوير الألبسة والمفروشات

لقد ابتكر الكثير من الفقراء نتيجة سوء وضعهم المادي وعدم قدرتهم على شراء ألبسة جديدة  طرق في إحياء الألبسة القديمة بتدويرها، وقد اتجهت الكثير من الأمهات إلى الاستفادة من بعض الألبسة القديمة في صناعة قطع جديدة منها لأطفالهم وأولادهم بدل إتلافها، وقد استثمرت بعض من السيدات عملية تدوير الألبسة كمهنة تؤمن جزء من مصروف عوائلهن، ولم تكن الألبسة وحدها ضمن عملية التدوير لتشاركها المفروشات أيضاً، ففي ظل الارتفاع الجنوني لأسعار المفروشات والأساس لجأ الكثير من السوريين إلى تجديد أثاث بيتهم بتدويره وإعادة صيانته بمبلغ قليل، ويعتبر نجارو الأخشاب إن تجديد الأثاث هو إحياء له، فبدل أن تصبح حطب للتدفئة، بلمسات بسيطة وغير مكلفة نستخدمها من جديد ولسنوات.

هل نعمّمها ونستفيد منها؟

السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بعد الحرب الذي باتت تلملم حقدها وظلمها مهزومة؟ هل نستفيد من الخراب والأنقاض التي خلفتها عاصفة الحرب؟

بمقترح نطرحه عبر صحيفة (النور) حول إعادة التدوير والاستفادة منها في الفترة القادمة باستثمار الأنقاض والمخلفات التي تركتها الحرب، إذ تحتوي أكوام الأنقاض على مواد مهمة جداً مثل الحديد الصلب الذي يمكن إعادة تدويره من جديد والاستفادة منه من جديد، كما يمكن إعادة تدوير الجدران والأسقف المهدمة للأبنية في كثير من الأمور ابسطها استخدامها في رصف الطرقات قبل تعبيدها.

نشر ثقافة إعادة التدوير عبر وسائل الإعلام وفي المدارس وتفعيلها عبر مجالس الإدارة المحلية والندوات الثقافية وغيرها، وعلى البلديات أن تعمل على نشر هذه الثقافة بوضع حاويات مخصصة لوضع البلاستيك والمواد التي يمكن الاستفادة منها، وهذه الخطوة حتى اليوم لم تفعل أبداً في بلدنا. 

العدد 1140 - 22/01/2025