عشق الشرق والتورط في العودة إلى الجذور.. قراءة في تجربة الشاعر السويدي غونار ألكف

 

 

 هل يمنع جليد الشمال انسياب قصائد المبدعين الإسكندنافيين إلى الجنوب؟ وكيف ينظر هؤلاء المبدعين إلى الحضارات الشرقية أو الإغريقية والبيزنطية؟ وما الجديد في نصوص اتكأت على صوفية الشرق المطمئنة وطقوسه وعلى إيمانية أوربا القلقة؟ وهل نجح الذين مزجوا رؤاهم ورؤى الشرقيين في منحنا متعة التورط في عشق الجذور؟

تجربة الشاعر السويدي غونار ألكف تقدم نموذجاً في العودة إلى سحر الشرق وطقوسه وعذاباته وأحزانه وانتصاراته وهزائمه، لا لتمجيده أو إدانته، ولكن لإضاءة الحاضر، وتعرية الانحلال السياسي المعاصر.

ولد ألكف في استوكهولم عاصمة السويد عام 1907 لأب يعمل في البورصة توفي مبكراً وترك ابنه طفلاً لا يتمتع بحنان أمه النبيلة، فعوّض نفسه عن حنانها ببناء عالم من الأحلام. وكان محاطاً بالكتب والموسيقا والأثاث الفاخر، لكنه لم يشعر أنه قادر على التمتع بها، وحين شب تعلق بالصوفية الشرقية، واطلع على كتاب (ترجمان الأشواق) في مكتبة المنزل، وغدا كتابه المفضل وتعلم منه الرمزية والسريالية، ثم ذهب إلى لندن ودرس اللغات الشرقية، وتهيأ لزيارة الهند لكنه تحول عن هذه الخطوة وعاد إلى السويد، ودرس اللغة الفارسية في جامعة أبسالا، ولم يُتم دراسته بسبب مرض ألم به، وفي هذه الفترة انبجست قصيدته الأصلية الأولى على حد تعبيره، وكان في حالة نشوة داهمته مثل مطر من نجوم هاوية، وأحس أن أوركسترا تعزف خلفه، وهكذا ولدت قصيدته الأولى.

شغف بالموسيقا في شبابه، ورحل إلى باريس لدراستها، لكنه شغل عن ذلك بالغوص إلى أعماق اللغة الشعرية.

وضع الشاعر أعمالاً شعرية لفتت اهتمام النقاد، أولها مجموعة عنوانها (متأخر على الأرض) عام ،1932 وحين نشر مجموعته (أغنية المسنات)، عدّه النقاد أفضل شعراء السويد.

من أبرز مجموعاته: (ديوان عن أمير أمجيون) عام ،1965 ومجموعته (حكاية فاطمة) – عام ،1966 ومجموعته (دليل العالم السفلي) – عام ،1967 وتوفي الشاعر بالسرطان عام 1968.

وقد صدر في لندن كتاب يضم قصائد مختارة الشاعر من مجموعاته الأخيرة، وترجمه عن الإنكليزية الشاعر والمترجم العراقي سعدي يوسف، وقدم له الناقد و. هـ. أودن، وصدر عن دار التكوين بدمشق عام 2011.

(جاب غونار ألكف مدناً كثيراً، وشعر باليأس، وأدمن البقاء في عالم الأحلام، وقامر وخسر ماله كله، وشارك في جلسات تحضير أرواح، وروى له عراف أن مكان (أناه الروحية) في فارس وأن اسمه كان (أمير أمجيون) فقدّر كلف أنه يتحدر من أصول أرمنية كردية، وأنه يدين بالمسيحية والغنوصية معاً (المقدمة ص11).

واهتم ألكف بالأيقونات البيزنطية وبالأرقام التي تعني الكثير للشرقيين، ورأى أودن في مقدمته أن الشاعر ألكف يعد الحياة رقماً وتْرياً، ويرى الموت رقماً شفعياً، كما أنه قسم مجموعته (حكاية فاطمة) إلى قسمين هما (نظم) و(تسبيح) وجعل في كل منهما تسعاً وعشرين قصيدة.

قدم ألكف لمجموعته (ديوان أمير أمجيون) ببيتين من شعر الشيخ محي الدين بن عربي هما:

شعرنا هذا بلا قافية

إنما قصديَ منه حرف ها

غرضي لفظة ها من أجلها

لست أهوى البيع إلا هاوها

وفي القصيدة الأولى نلمح تأثير الوجد الصوفي، والدخان والمجداف الوحيد والدوران الذي لا يقود إلى رحاب المعشوقة، يقول:

أراك بعيدة/ طالعة من بحار الدخان/ في رداء دقيق الثنايا/

وأنت لا تريدينني/ لكن أيتها الغريبة سأجهد كي أبلغك/ أجذّف نحوك/ مثل رجل ذي مجذاف واحد/.. في الكدح ارتخت قبضتاي/ وأخذ المركب يدور/ في دوائر الليل والنهار/ لكن لن ترخي قبضتي عنك/ أنت تكونين مجذافي/ ص 20.

وفي قصيدة (إغفاءة) يتابع الشاعر الحديث عن أهالي الذهول واليقظة، ووصف حال المحب الموله، يقول:

(لا تسألني البتة عما جرى لي/ سقتني نهلة من خمر عربي/ ثم دثرتني معتنية برداء أبيض/ وأضجعتني لأستريح/ بين صخور تأكلتها العناصر) ص 22.

وهو يتساءل عن سر جمال المحبوبة الذي يظهر ويستتر، ولا يكشف ظاهره ما يخفيه الباطن، يقول:

أخبريني بأي رداء تتخفين/ كيف صبغت نفسك بهذا البياض؟/ وصارت قدماك بهذا اللطف/ حتى كادتا تستتران/ تحت ردائك ذي الزهور/ طلقة صنعت لك لتغرزك في قلبي/ طلقة من حديد غمست بالعسل/

تفتح أسوأ الجراح/ كي تجعلك تحسين/ معنى أن يموت امرؤ حباً. ص30.

وفي قصيدة (العين المطهرة) نقد قاس لشهوة البطش وسطوة المستبد وجنون الأباطرة، الذين يغسلون أيديهم لتبرئتها من الدماء ا لمسفوحة ظلماً: كنت مع رومانس/ ورأينا المذبحة والخيانة/ يالشهوة الحكم القذرة/ الماء لتطهير أيدينا/.. حتى هذا الفعل البسيط/ غير قادر على تطهير أيدينا من كل ما أرادت تناوله/ من شهوة الحكم، من شهوة الشهوة. ص33.

وفي قصائد تحمل عنواناً واحداً هو (العين المطهرة) وصف الشاعر محنة المبدع الذي يسمل الطاغية عينيه، لكنه يبصر أكثر من الجميع، ولن يظل وحيداً يقول:

في طريقنا إلى سميرنا/ ومانيسا وسارت وقونية/ وعبر الجبال فرات/ والجبال ثانية نحو مراع لن أراها/ مسمول العينين تقوده عمياء، عمياء تقود آخر اقتلعت عيناه/ تلك التي أسميتها ابنتي/ تقود رجلاً مسمول العينين، مبصراً/ أنت الوحيد؟ ليكن/ إن قافلة عظيمة ستكون معك أخيراً/ ص39.

يستعير الشاعر محنة الأمير الفارسي أمجيون الذي أسر وسملت عيناه وكان حاله مثل حال الشاعر، يشعر بغربة قاسية، مثل من سملت عيناه، ويخاطب عذراء الأيقونة السوداء متوسلاً أن تنقذه من الظلمة الحالكة.

ويمزج الحكاية الشرقية بأسطورة أوديب، ويقدم لنا مشهد الوهج الأحمر الحامي الذي يلاقيه المحكوم بسمل العينين، والذي يترك لموت بطيء.

وفي قصيدة (البئر المطهرة) يستمر النشيد الحزين للأمير الأعمى الذي لم يؤذ أحداً، لكنه عوقب بسمل عينيه، وترك لمصيره الأسود، وإن كان يبصر نور الذكرى، يقول:

خذي بيدي أيتها الأميرة/ تعالي نمضِ الآن/ عبر الهلال الخصيب إلى أرضنا/ لا أحد يؤذينا/ ولا نؤذي أحداً/ سمل العينين يرد البصر حديداً/ والنورسيداً/ نور الذكرى. ص63.

وفي قصيدة (إلى نظام) مناجاة رقيقة إلى من ساندت الأعمى في محنته، يقول:

لأنني أعمى أحد سعادة فيما يخبرني الآخرون أنهم رأوه/ فإن غناي أن أحس بهذه اليد على يدي/ أستطيع قراءة أفكار الفتاة من طريقة إمساكها بيدي/ أنت يا من هبطت علي في يوم بلواي/ ماذا أستطيع أن أهبك؟/ سأحكي لك حكايات، لا، سأغني أغاني/ كي أرى عينيك تغيمان سوداوين/ وأرى في أعماقهما البريق الأحمر للنبيذ/ وأرى في حوافهما خاتماً من الماء الطاهر. ص74.

سحر الشرق وعشقه يبرزان بوضوح في قصائد ديوان الأمير، ويلتمع الألق والبياض والنقاء في كل مقطع وفي أصداء كل نشيد، كمايبرزان في مجموعة (حكاية فاطمة)، وإذا كانت المرأة متكأ ومجذافاً هناك، فهي هنا تومض في مرآة العاشق: يقول:

لا تدهشي/ للصورة التي ترين/ والعينين المتسائلتين/ وألوان البشرة المتبدلة/ وهي تومض رقيقة في النور الشاحب/ إن ما رأيته هي نفسك/ نفسك في مرآة رجل. ص88.

هالي الوفي قصيدة (العاشق) يمنح الحب للشاعر خيالاً وصباحاً من فضة، فيغدو مثل مرأة تعكس روح المحبوبة، يقول: لا الشمس ولا القمر ولا النجوم/ منحتني النور/ لكنه الظلام ونور الحب داخلي مخترقاً جسدي/ كما لو أنني لا أحد/ منحت يا فاطمة روحي خيالاً/ منحتني مصباحاً من فضة/ بعد أن مضيت ص95.

القصيدة بمقاطعها الستة تصف حال الوله لعاشقين يبث كل منهما الآخر لواعجه، ويقص عليه أحلامه، وأوجاعه، ويتساءل بوجد: كيف لي أن أتخلص منك؟

وفي المقطع السادس إشراق صوفي وتجربة اتحاد بمعشوق غير مرئي، يقول: (من جرب ومن لم يجرب/ تلك اللحظة التي يغدو فيها: كل شيء فجأة غريباً/الأصوات ووقع الخطا في الدرب/ تصمت كما لو أنها وراء أبواب ونوافذ مغلقة/ الأبواب والنوافذ مفتوحة لكن الأحاسيس خامدة/ الألوان تختلط، وتتبدل، وتتغير إيماضاتها/ مثل قطعة نرد تتقافز في العتمة تحس بحضور شخص غير موجود/ لكنه سبب هذا كله) ص100.

وفي قصيدة (يوسف وفاطمة) تبرز مأساة انكسار الحلم، التي تتناسل منذ قيس وليلى وروميو وجولييت، يوسف يصرع بمدية، ومحبوبته تناجي طيفه، وهي تقاسي موتاً في بحثها عن الحبيب في الأسواق، وفي معاناتها استغلالاً بشعاً في عالم فقد إنسانيته، وغدا فيه الحصول على الخبز واللبن يحتاج إلى دفع ثمن باهظ، وانحدار إلى الهاوية.

قصائد ألكف وحياته صرخة احتجاج على عالم مجنون، باع المتنفذون فيه أرواحهم لشيطان المال والشهوة والسلطة، وخسروا أحلامهم وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم وإنسانيتهم.

وأغنياته وتراتيله تعيد على أسماعنا أصداء صرخات الحلاج ونسيمي وابن عربي، ونغمات حزينة من جوقات بيزنطية وفارسية وإغريقية، تربط مآسي الحاضر بجذورها المتشابكة في الماضي البعيد.

العدد 1140 - 22/01/2025