هيئة الاستثمار.. الحب في زمن اللاعمل
نجحت الحكومات المتعاقبة قبل 2011 في تطفيش المستثمرين، فخسرت سورية استثمارات كبيرة، وواعدة. ولهذا لم نجد سبباً إضافياً، يدفع نحو 8 آلاف رجل أعمال سوري من مختلف الدرجات – قبل الأزمة الراهنة – بتأسيس استثمارات في السعودية.
وفي الوقت الذي كانت فيه الدول تستقبل المستثمرين القادمين إليها، وتجذبهم عبر خلق مناخات مشجعة لهم، فيركبون طائراتهم الخاصة، متوجهين إليها، كنا نشعر أن بلادنا تستعطف المستثمرين. ولم يخف مسؤول اقتصاديّ سابق موقفه، بأن إقناع عشرة مستثمرين كبار، بتأسيس مشروعات في سورية، يفيد العملية الاستثمارية، أكثر بكثير من تلك الاستثمارات المنخفضة الرأسمال. على اعتبار أن كبار المستثمرين يقودون المستثمرين الآخرين، وهم جزء من البيئة الجاذبة للاستثمار. هذا يعني في شكل من الأشكال، أنه لم تك هناك رغبة حقيقية في تنشيط المشاريع المتوسطة، بل رغبة في الحديث عن أرقام كبيرة، واستثمارات ضخمة، حتى وإن لم تنفذ.
شمّلت هيئة الاستثمار السورية 1516 مشروعاً، ألغت منها 169 مشروعاً، منذ تحولها من مكتب في 2007 حتى الآن. هذه البيانات الورقية، تتراجع قيمتها وأهميتها، لحظة التوقف عند المؤشر الأبرز في سجل الاستثمار السوري، وهو نسبة التنفيذ، لنجد ـ وفقاً لبيانات الهيئة ـ أن 36% فقط من تلك المشاريع نُفذت، خلال فترة الأزمة الراهنة، مقابل 41% في الفترة 2010 وما قبل. هذا يعني أن كل ما قيل عن جدوى المشاريع، وفرص العمل التي ستخلقها، ودورها في دعم الاقتصاد الوطني، وترسيخ التنمية المستدامة، ثلثه تحقق، والباقي ذهب مع الريح.
قد يكون من الصواب، القول إن عدم التنفيذ ليس من مسؤولية هيئة الاستثمار، لكن من الصواب والدقة أيضاً، القول إن الهيئة التي عمرها تسعة أعوام، وورثت خبرة 15 عاماً لمكتب الاستثمار، بإمكانها التفريق بين المستثمرين الجدّيّين وغيرهم، وأن تكف عن إتحافنا بالبيانات الوهمية. فمشروع واحد منفذ، مهما كانت فرص العمل التي سيخلقها، ومهما كان رأسماله صغيراً، يسعدنا مئات المرات عن المشاريع الضخمة التي تظل حبراً على ورق.
يبدأ كل مدير عام جديد لهيئة الاستثمار، بخطة طموحة، تتجاوز دائرة الطباشير المعلنة في تنشيط العملية الاستثمارية. يصوب على نمط الاستثمار السائد، و يسعى لتغييره. وتصطدم الرغبات دائماً بأكثر المشكلات عمقاً، التي لم تتجرأ حكومة على معالجتها، وهي لجم تداخل عمل عدد من الوزارات والجهات العامة في الشأن الاستثماري، ووضع حد للتدخل في شؤون المستثمرين. تتدخل الوزارات بعمل الاستثمار بغير وجه حق، تظن نفسها أنها تطبق القانون، حتى لا يُسحب البساط من تحتها، ومن أجل عدم تضييع الفرصة على الوزير المعني في التخلي عن مكسب بيديه. ولمعالجة هذا الوضع انبثقت النافذة الواحدة، إلا أنها لم تف بالغرض المطلوب.
تعيش هيئة الاستثمار حالياً حالة من الانتعاش، تحاول مديرتها إيناس الأموي بثّ الحياة من جديد في أوصالها، إلا أنها بدأت بالبوصلة المحلية. ماذا تنفع لقاءات الوزراء مع هيئة الاستثمار؟ هل يحتاج وزيرا الزراعة والنقل وغيرهما إلى حثّ هيئة الاستثمار لتنشيط العمل، أم العكس؟ من يحث الآخر: الهيئة أم الوزراء؟ تبدو العلاقة غير متينة، وتواجهها الصعوبات، وهي محكومة برغبات شخصية.
هل من المقنع أن لدى هيئة الاستثمار عمل الآن؟ طبعاً لديها عمل. مؤسساتياً، يمكن إيجاد الكثير من القضايا التي يُفترض أن تشتغل عليها الهيئة، ليس من بينها جذب المستثمرين، أو إعادة تشغيل الاستثمارات المتوقفة في المناطق التي تشهد عمليات عسكرية. هذه ليست القضايا الملحة، ولا تشكّل بوصلة للعمل الاستثماري، كما اللقاءات البروتوكولية مع الوزراء. منذ أربع سنوات والهيئة أنجزت الدراسات اللازمة لتعديل قانون الاستثمار، وطوي الموضوع لاختيار التوقيت المناسب لإعلانه. والآن تناقش فكرة تأسيس المجلس الأعلى للاستثمار، الذي حسب معلومات حصلت عليها (النور) لم يرق لمديرة هيئة الاستثمار، التي تحاول التفرد بهيئة مستقلة. إذا كان هذا ما يجري في أروقة الاستثمار، فما هي الأوليات؟ سئمنا عرض أرقام الاستثمار، عدد المشاريع المشمّلة، وكلفتها، وعدد فرص العمل. لأن هذا العرض تناوب عليه خمسة مديرين عامين للهيئة، منذ 2007، بالمنهجية ذاتها التي مفادها: هذا ما شمّلناه، وانطرونا!!
عانى مكتب الاستثمار سابقاً، والهيئة حالياً، من قاعدة التريث في العمل، وعدم الثقة بجدّية غالبية المستثمرين، وأن المشاريع المنفذة أقل بكثير من المشمّلة، وغيرها من المشكلات، التي لم تجد من يحلها، ولم تنبثق الرغبة في معالجتها. ومن المفيد لهيئة الاستثمار، أن تخطو بالاتجاه الصحيح، وتكون جريئة مع ذاتها، وتخبرنا أنه في زمن الحرب، لن يكون بالسهولة تنفيذ مشروع تنموي (صناعي أو زراعي) في البلاد، ولهذا تصبح القاعدة السابقة ـ التريث ـ قاعدة ذهبية، قبل أن تتحول هيئة الاستثمار إلى عاطلة عن العمل بامتياز.