أعمال حرة أفرزتها البطالة
أدعي أن أول وأهم معنى للحرية هو أن تتحرر من الحاجة، كل ما عداه يأتي لاحقاً من حيث الأهمية لا من حيث الترتيب الزمني.
الحاجة تجهز على كل مستويات الحرية الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية و.. إلخ.
طبعاً هذا لا يقلل من الأهمية القصوى للحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ظل ضوابط تمنع استغلال إنسان لإنسان أو شعب لشعب.. أو أي مجموعة بشرية لأخرى.
ربما كان العمل الحر هو أحد وسائل الكائن البشري في بحثه عن التحرر من الحاجة ما أمكنه ذلك، يفضله كثير من الناس الذين يحلمون أن يكونوا هم أرباب عملهم، فلا يعملون لدى أي رب عمل، سواء كان رب العمل هذا الدولة أم رأسمالياً أم إقطاعياً من الموديل القديم أو الحديث، من الذين ركبوا قطار الثورة والشعارات حتى صاروا ملاكي أراض وشركات.
هناك الكثير من الأعمال الحرة اللافتة التي أفرزتها البطالة المنفلتة في بلاد كانت تكتب على لافتاتها أن لا حياة في هذا الوطن إلا للتقدم والاشتراكية.. وعلى سيرة هذا الشعار فقد صادف ونحن في المدينة الجامعية بدمشق أن كانت هناك خزانتان معدنيتان متلاصقتان في مدخل الوحدة السكنية التي كنا نقطنها كواحدة من المنجزات، وقد ألهم الرب أحد (الرفاق) المتحمسين فكتب على الخزانتين تلك العبارة، على الأولى: لا حياة في هذا الوطن، وعلى الثانية: إلا للتقدم والاشتراكية.
وتشاء المصادفات أن يحتاج المعنيون إلى خزانة منهما فسحبوا الثانية وبقيت الأولى وقد كتب عليها: لا حياة في هذا الوطن…ربما لم ينتبه إلا بعض الخبثاء إلى هذا (الخطأ الأيديولوجي)، فكنا كلما مررنا به نقرأ ونضحك.
سنقف هنا عند أنماط من الأعمال الحرة أفرزتها حالة التدهور الاجتماعي والاقتصادي في ظل التطور الطفيلي للاقتصاد السوري والتشوه الهيكلي في بناه (كما يشخص أهل الاختصاص)، وبعضها وليد الأزمة الوطنية الكبرى وحالة الحرب التي يعيشها معظم أنحاء البلاد.
على باب الأفران الآلية الحكومية طبعاً، إذ توقفت معظم الأفران الأهلية في المناطق الساخنة، ربما لأنها ساخنة وليست بحاجة لأفران لتسخنها أكثر. . يقف أطفال ومراهقون وهم يحملون ربطات خبز ساخنة يبيعونها بفارق سعر لافت عن أسعار الفرن.
أمام مخبز الزاهرة الآلي حيث الازدحام الشديد يتراوح (السعر الحر) لربطة الخبز بين 35 و50 ليرة حسب درجة الازدحام.. هؤلاء في معظمهم متعيشون رمتهم ظروفهم إلى هذه الأعمال الهامشية بعد موت أب أو هجرته وبقاء الأسرة بلا معيل، وكثيراً ما تقف الأم مع أولادها تساعدهم في تأمين الخبز بين زحام البشر وتسليمه للولد المختص بالبيع.
الجديد في الموضوع هو أن الزبن المستعجلين أصبحوا أكثر من المعتاد، وصار عليهم أن يصطفوا أيضاً بالدور أمام الصبي ريثما يأتيه التموين من بين الزحام فتنمو طوابير صغيرة بحذاء الطابور الطويل الممتد إلى آخر حدود الصبر والتحمل.
وهكذا صارت الطوابير تتداخل وتصنع خريطة طريق للألم السوري على الرصيف العريض أمام المخبز.
وشاعت مهنة أخرى هي بيع المشروبات الساخنة لسائقي السرفيس والتكسي في مناطق تجمع ومرور هذه المركبات ضمن المدن، معتمدة على أن السائق يعمل ساعات طوال دون توقف، وهو يتلمظ على كأس شاي، والقليل منهم على قهوة أو نسكافيه (أم العشر ليرات).
عدة الشغل هنا غاز ودراجة هوائية أو (طرطيرة)، وأحياناً يستغنى عنهما ويكتفى بطاولة معدنية مخلعة يسهل فكها وربطها بجنزير مقفل إلى عمود نور أو دعامة بيتونية عند انتهاء (الدوام)، تستخدم ك(بسطة) لوضع الأباريق والمواد الأولية من شاي وسكر وغيرهما عليها، مع غاز صغير وكاسات بلاستيك، يقف سائق السرفيس لثوانٍ فيسارع صاحب البسطة إلى تجهيز طلبه الذي حفظه من تكرار مرور السائق عليه، وأحياناً يعطيه السائق كأساً فارغة ليغسلها ويملأها له بطلبه بمبلغ زهيد يروي عطش السائق ويحقق ربحاً بسيطاً للبائع.
السوريون تحايلوا طويلاً على الفقر، وابتدعوا وسائل لا تحصى لمواجهة الغول الذي لا يرحم، ولم ينتبه أحد من أصحاب الشعارات الكبيرة إلى نمو وتعاظم الفقر ووصوله إلى حواف الكارثة الاجتماعية التي تنذر بثورة اجتماعية اقتصادية.
بل إن أحد أعمدة الاقتصاد اخترع مؤخراً مصطلح (الشعب المرن) لوصف الشعب السوري، في رده على بعض رجال السياسة والصحافة والاقتصاد الذين حذروا من انفجار اجتماعي في حال استمرار سياسة إدارة الظهر للفقراء ومحاباة الأغنياء، مؤكداً أن شعبنا يتحمل الكثير ويسكت، فيما القليل من أصحاب الأقلام التي تدافع عنه هم من يعظمون الأمور ويؤكدون أن غضب الشعوب يمهل لكنه لا يهمل.
الآن.. هذا الرجل المكنى بالدردري لا ندري في أي بلد وفي أي موقع صار، لكن بالتأكيد الحق ليس على الدردري وحده، بل على من سلّطه على رقاب الناس والاقتصاد وحماه.. بل واتهم كل من حذّر من مخاطر سياساته وسياسات من سبقوه بتهم شتى.
هذا النمط من الأعمال الحرة هي نتاج عقود من الكلام الكثير والفعل القليل كما هذا الانفجار الكبير الذي يمتد على طول البلاد وعرضها.