قضية واضحة تدعونا للتساؤل:من يحاسب القضاء عندما يخطئ؟!
لا أعتقد أن المرحلة التي تمر فيها سورية بحاجة إلى المزيد ممّن يسيء إليها عبر مخالفة الأحكام والقوانين والأنظمة ويضرب عرض الحائط بالتعليمات الوزارية وغيرها. واليوم نحن أمام إحدى هذه الحالات التي تستدعي التوقف عند قصر نظر البعض وبضمنهم من كان الأولى بهم أن يكونوا أكثر حفاظاً على المال العام وعلى تطبيق النظام والقانون حفاظاً على سمعة الجسم القضائي في سورية.
القضية من بدايتها
بدأت القضية بتاريخ 15/2/2015 عندما صرّح صاحب شركة الخطيب لمواد التجميل في البيان الجمركي الخاص بالمادة المستوردة على أنها (مزيل رائحة تعرّق- ديودوران) في حين كتب على العبوات من بلد المنشأ من قبل الشركة المصنّعة بطباعة غير قابلة للإزالة معطر جسم بخاخ.
قام مخبر جمارك طرطوس بإحالة العينة إلى مديرية المخابر المركزية لمرفأ طرطوس مع طلب التحليل اللازم بهدف تحليلها، وكان السؤال الموجّه: (ماهي العينة المرفقة وماهو تركيبها الكيماوي؟ وهل هي مطابقة للمواصفات القياسية السورية الخاصة بها؟ وهل هي صالحة للاستعمال البشري؟ وهل تحتوي أية مواد ضارة بالصحة؟ وهل تستخدم لغير الأوجه المصرح عنها).
تحليل مديرية المخابر المركزية
بعد إجراءات استيفاء رسوم التحليل قامت مخابر مرفأ طرطوس بالتحليل وفق المواصفات القياسية السورية المعتمدة ووفق التوجيهات الأوربية المعتمدة في المواصفات القياسية السورية ووفق ماهو مدوّن على العبوة، وتبيّن بنتيجة التحليل أن العبوات ليست مزيلاً لرائحة التعرّق، ولا تخضع للمواصفة القياسية الخاصة بمزيل رائحة العرق، وإنما هي معطر جسم بخّاخ ويخضع للمواصفة القياسية السورية الخاصة بالعطور (2156 و3733 المحدثة) وكانت نتيجة التحليل كما يلي: (عطر نسائي بخاخ صنع لبنان 150 مل محلول رائق عديم اللون مع غاز دافع – بوتان، بروبان – ذو رائحة عطرية مميزة خالي من الشوائب والرواسب صالحة للاستخدام البشري الخارجي يستخدم في تعطير الجسم مطابق للمواصفات القياسية السورية 2156/1999 من حيث القرائن المحللة).
هيئة المواصفات والمقاييس تؤكّد
قامت مديرية المخابر المركزية عملاً بالقرار رقم 57 لعام 2001 الصادرة عن السيد وزير الاقتصاد لاسيما البند الرابع منه بمخاطبة هيئة المواصفات والمقاييس السورية عبر شرح فني واف، وذلك لبيان رأي الهيئة الفني بهذا الخصوص كون الهيئة هي الجهة التشريعية التي تصدر جميع المواصفات القياسية لجميع ما يوجد في القطر من بضائع ويجب على كل المخابر التقيّد بتعليماتها، وكان قرار الهيئة المذكورة يؤكد صحة تحليل مديرية مخابر طرطوس.
تأخر الاعتراض
لم يعترض أي من الجمارك أو صاحب البضاعة على نتيجة التحليل، وبالتالي لم يلجأ صاحب البضاعة إلى السبل القانونية الذي فرضه قانون الجمارك مادة 81 والمادة 82 منه والفصل الرابع إلا وهو اللجوء إلى التحكيم أصولاً بل على العكس تم اتخاذ الإجراءات الأصولية المرعية في حال عدم الاعتراض على التحليل، وقامت الجمارك بتنظيم مخالفة بحق صاحب البضاعة، إذ أقرّ بمخالفته وقام بدفع المخالفة وأخرج بضاعته إلى الأسواق أصولاً.
المفاجأة بعد أن وزّعت البضاعة
فوجئ العاملون في مديرية المخابر المركزية في مرفأ طرطوس بأن صاحب البضاعة بعد أن سوّى وضع بضاعته من حيث دفع الغرامة للمخالفة، وبعد أن أصبحت بضاعته في الأسواق المحلية، قد تقدّم بعدّة دعاوى قضائية شملت كلاً من السيد وزير النقل والسيد مدير مرفأ طرطوس اعتبارياً ومدير مخابر المرفأ ورئيس الدائرة المحلّلة والمحللون شخصياً، بتهمة إساءة استعمال السلطة وإصدار تقارير كاذبة وغير ذلك. وقد قام صاحب البضاعة أيضاً برفع دعوى أمام محكمة البدايات المدنية المستعجلة في طرطوس وطالب بتحليل العينة لدى مخابر التموين ووفق الأسئلة التحليلية التي تناسبه، وعندما أصدر القاضي قراراً بإعادة التحليل في مخابر جامعة طرطوس أو جامعة تشرين أي غير مخبر التموين الذي تشبث به صاحب البضاعة قام المذكور باستئناف القرار القضائي وطلب تنحية القاضي وهذا ما حدث بالفعل.
عطلة قضائية وتحليل متناقض
انتظر صاحب البضاعة بدء سريان العطلة القضائية ليقوم برفع دعوى في الموضوع ذاته والمطالب والأطراف ذاتها أمام محكمة البداية المدنية مستغلاً عدم معرفة القاضي المناوب حينذاك بمجريات القضية، فعمد إلى إعادة طلبه السابق بتحليل العينة في مخبر التموين وفق الصيغة التي تناسبه وتؤكد مطالبه ودفوعه، وفي المخبر الذي يرتئيه بصرف النظر عن كونه مدّعياً ولا يحق له اختيار المخبر المحلل. والمفاجأة كانت صدور قرار من القاضية المذكورة ينسجم مع مطالب المدّعي، إذ أرسلت العينات إلى مخبر التموين وأتت نتيجة التحليل متناقضة مع ذاتها وناقصة، فقد أكدت أن المادة معطر جسم وفي الوقت نفسه تمت مطابقتها وفق المواصفة الخاصة بالديودوران، وأكدت نتيجة مخبر التموين أنه لم تجر كل القرائن اللازمة في المواصفة القياسية السورية لعدم وجود الإمكانات الفنية لديهم!!
ضم القضيتين!!
قامت القاضية بضم القضيتين القديمة التي تنحى عنها قاضي محكمة البداية المدنية الناظرة بالقضايا المستعجلة، والجديدة، التي خلصت نتيجتها إلى تقرير الخبرة المتناقض والمطعون بصحته فنياً، الصادر عن مخبر التموين ودون النظر إلى أن التحليل حدث في ظروف مشبوهة، فقد سُحبت العينة وأعيد تحليلها في غياب محامي أطراف الدعوى، وأصدرت حكماً بتثبيت نتيجة مخبر التموين واعتبار العينة ديودوران دون النظر إلى أن الخبرة ذاتها قد حددت اسم المادة: معطر دون أن تطلب إعادة الخبرة علماً أن مادة الديودوران (مزيل رائحة التعرّق) وفق المواصفات القياسية 1440 له عدة شروط من أهمها أن يحتوي على المادة القاتلة للبكتيريا التي تسبب رائحة التعرّق، وهذه المواد وفق المواصفة المذكورة مصنفة في التوجيهات الأوربية المعتمدة من قبل هيئة المواصفات، ولم يثبت أي تحليل احتواء المنتج عليها، واللافت للأمر أن مخبر التموين قد أقرّ بأن المادة معطر للجسم وتمت مطابقتها وفق المواصفات القياسية السورية للديودوران! وإضافة إلى كل هذه التناقضات التي وقعت فيه القاضية فقد عمدت إلى اعتبار ان الكشاف الجمركي هو الذي يحدّد نوع البضاعة وماهيتها من خلال الكشف الحسّي عليها وهذا مناف للمنطق والعقل وللتعليمات التي حددت مهمة الكشاف بأنها إجراء الكشف الحسي أي مشاهدة العينة العائدة للبضاعة وقراءة ماهو مدوّن عليها من معلومات بدقة وتدوين ذلك على طلب التحليل المرسل إلى المخبر للتأكد من صحة المعلومات في حين تقع مهمة التحليل والتحقق من المعلومات والمواد الداخلة في التركيب على المخبر فكيف أوقعت القاضية نفسها في كل هذه المغالطات؟!!
مادة حافظة فقط!
المادة التي أضيفت إلى العبوة المستوردة باسم التاجر المذكور والتي كتب عليها من الخارج معطر للجسم هي (تريكلوزان) وهذه المادة مصنفة على أساس أنها مادة حافظة وفق هيئة المواصفات والمقاييس السورية ووفق التوجيهات الأوربية المعتمدة من قبل الهيئة ووفق القوائم التعريفية الدولية لمستحضرات التجميل على أنها تضاف إلى كامل مستحضرات التجميل وليس كمضاد بكتيريا.
وفي الكتاب رقم 427/ ص/ه/ ك الوارد من هيئة المواصفات والمقاييس السورية إلى الشركة العامة لمرفأ طرطوس، يوضّح صراحة أن الديدوران المزيل لرائحة التعرّق يجب أن يحتوي على مادة قاتلة للبكتيريا المسببة لرائحة التعرّق، ويذكر الكتاب صراحة ودون أي غموض أن مادة التريكلوزان هي مادة حافظة.
الجدير ذكره
يلجأ بعض التجار بسبب الفرق بين بضاعة وأخرى في الرسوم الجمركية التي تعود إلى الخزينة العامة للدولة، إلى التصريح عن بضاعتهم بشكل مناف لحقيقتها منتظرين أحياناً أن يستطيعوا اختراق العاملين في المخابر المحللة للتهرّب من هذه الرسوم.
أخيراً: جملة من التساؤلات نضعها بين أيدي السادة المعنيين سواء في وزارة النقل أو وزارة الاقتصاد أو وزارة العدل تتلخّص فيما إن كانت قوانينهم وتعليماتهم تقتضي الحفاظ على المال العام وعدم السماح لأي كان بنهبه أم تسهيل الاستيلاء عليه من خلال جهل القائمين بالتحقيق القضائي في قضايا كهذه، بأبسط القواعد المتبعة في هذا المجال فهل سنشهد نهاية قريبة لهذه القضية بما يحفظ المال العام وكرامة الموظفين ويضع حداً لكل المغالطات التي رافقتها ياترى؟!