التشكيك بالكوادر البشرية.. مكيدة حكومية تمهّد لفشل قادم

تناولت حكومة عماد خميس الكوادر سلبياً، بشكل علني مرتين، وجاهر بعض الوزراء والمسؤولين بعدم رضاهم عن الكوادر، وربما عبّروا عن استيائهم من العامل السوري، الذي يعمل بأجر تقل قيمته عن 100 دولار شهرياً. وإذ تندب الحكومة حظّها لجهة الكوادر، بتظهير نغمة الضعف الإداري، فهذا مؤشر خطير يتعلق بمكيدة حكومية حتماً، ويمهّد لفشل قادم يلوح في الأفق.

جاءت الانتقادات للعاملين من أروقة مجلس الوزراء، وخلال اجتماعين منفصلين، عُقدا الشهر الماضي، يتعلقان بالاستثمار والمصارف. والواضح أن وزير التنمية الإدارية حسان النوري يقود التململ الحكومي من الكوادر، وكأنه يصفّي حسابات معها. هذا المرشّح الرئاسي السابق الذي خاطب في بيانه الانتخابي الشعب السوري بصفة (الشعب العظيم)، وأطلق على نفسه صفة نائب القائد العام للإصلاح الإداري- في لقاء صحفي سابق- سدّد طلقات في ظهر كوادر المؤسسات العامة. وأثناء حضوره اجتماعاً حول تطوير هيئة الاستثمار، قال النوري في معرض توصيفه لمعيقات عمل الهيئة: (إن المشكلة تكمن في الكادر الإداري والتنظيمي، غير القادر على مواكبة الأهداف الكبيرة التي طُرحت لعمل الهيئة).

تتعامل هيئة الاستثمار، وهي من أصغر المؤسسات السورية لجهة عدد موظفيها، مع مستثمرين، وأحياناً مع النخب من رجال الأعمال، وهذا يتطلب دقة فائقة في اختيار الكادر، وأعتقد أن هذا الشرط متوافر، فمن أين أتى النوري بهذا التوصيف؟

إلا أن النوري الذي يحمل حقيبة إصلاحية في مجال الإدارة، يستحق سؤاله عن فشل وزارته الذريع في تحريك المياه الراكدة، وإغراق الإدارات بأفكار لم تطبق؟ يبدّد النوري الوقت في الحديث عن المصفوفات، وعن وحدات التنمية الإدارية، فعقب 26 شهراً متواصلاً من عمله في هذه الوزارة، نريد منه النتائج المتحققة، وثمار وعوده التي أطلقها، والإيجابيات المنجزة، وليس توجيه التهم.

يعيق كبار المسؤولين في الحكومة التنمية الإدارية، وقبل أن يتوجه وزير التنمية الإدارية إلى العاملين، عليه أن يكسب ودَّ أصحاب القرار، ويقنعهم بجدوى الإصلاح الإداري. إن غياب القادة الإداريين، واستحواذ قلة مزمنة على الإدارات العليا، هو المشكلة التي لا يقاربها النوري، بينما يبحر باتجاه من لا تأثير لهم.

المرة الثانية التي صوبت فيها حكومة خميس على الكوادر، كانت خلال جلسة لاستعراض واقع العمل المصرفي، وجاء فيها: (كما تناول الاجتماع، التحديات التي تعاني منها المصارف، والمتمثلة بنقص الكفاءات والخبرات المصرفية المدربة). هل من عاقل يستسلم لهذا الموقف الانهزامي، الذي يختزل تحديات عمل المصارف؟ لم تستطع المصارف الخاصة جذب العاملين في المصارف العامة من ذوي الخبرة، بل فضّلت عليهم القادمين من خلف الحدود، عرباً وأجانب، لولاءات تتعلق بمالكي الحصص الكبرى في هذه المصارف. كيف يمكن لقطاع التأمين أن يمتلك هذه الكوادر بينما المصارف لا تملكها؟ والتجربة بين هذين القطاعين متشابهة.

في المقلب الآخر، لا تصحّ مقولة هروب الكوادر السورية، إذ استقطبتها إدارات مصرفية عربية، وثمة حركة واضحة ضمن المصارف الخاصة العاملة في سورية، التي أبرمت عقوداً مع بعض كوادرها للعمل بفروعها في دول عربية أخرى، وهذا ليس اتهاماً لها، بقدر ما هو تصويب للمسألة. فمن حق هذه الإدارات إغراء هذه الكوادر، لكن ليس من حقها أن تندب حظها، وتختزل مشكلتها بالكادر. أما في القطاع العام المصرفي، فإن المصرف الذي لا يمتلك كوادر كفأة، عليه إغلاق أبوابه، ومحاسبة إدارته.

بالمسطرة ذاتها يمكن القياس، في الصناعة التي يعبّر معظم مديري الشركات عن حاجتهم إلى العمالة، في اختصاصات محددة، بقدر ضجرهم من العمالة الفائضة. وبالنسبة للحرفيين هناك مهن لم يعد يعمل فيها أحد. لكن من يتحدث عن نقص في الكوادر، ليرجع إلى السبب الرئيس الذي دفع الكوادر إلى المغادرة، ولا يظنّنّ أحد أن الحرب هي السبب، الحرب كانت آخر ورقة توت سقطت، وجذر المشكلة هو في غياب مبدأ تكافؤ الفرص. لن يترك المسؤولون وصنّاع القرار، سبباً واحداً مقنعاً، لكادر مميز وكفء ليتمسك بالبقاء، والعمل تحت سلطة- وليس إدارة- من لا يفقه في العمل، لأن مسؤولي الصف الإداري الأول في سورية، يملكون سلطة، ولا يمارسون الإدارة.

لا يوجد ما يبرر الشكوى الدائمة من ضعف الكوادر، سوى جلد الذات، وتبرير الفشل. هكذا تتعامل الحكومات البيروقراطية، أو الحكومات التي لا تملك عناصر القوة لتكون ناجحة في أدائها، والوزراء الذين يصطادون في المياه العكرة، والمسؤولون الذين لا يتمتعون بالكفاءة. وتُطلَق هذه الصفات تجنّباً للمحاسبة، وبحثاً عن فردوس إداري يتناسب مع التفكير الآني. تصوّب الحكومة على كوادرها، تنعتها بعدم الكفاءة، وغياب المؤهلات، واتحاد نقابات العمال صامت.

تتنازل هذه الحكومة عن ثروتها البشرية، وتنزلق إلى المستوى الذي يعزز الإحباط. فيا أيتها الحكومة: في سورية عقول مفكِّرة، وكوادر مبدعة، تحيّنت فرصتها عبثاً.

العدد 1136 - 18/12/2024