ما بين التشاركية والخصخصة والسياسات الواقعية
في ثاني ندوات الملتقى الحواري الاقتصادي السادس الذي يقيمه فرع اللاذقية لجمعية العلوم الاقتصادية، بعنوان ما بين الخصخصة والتشاركية والسياسات الواقعية، أجمع الحضور على ضرورة إعادة الدور التنموي الاجتماعي للحكومة ولمؤسساتها الوطنية، لتحقيق الانطلاقة الصحيحة ولإعادة تحريك عجلة الإنتاج وإعادة البناء، والكل يقدر حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والعمران إضافة إلى الخسارة الأكبر للدماء السورية الطاهرة. وكذلك وضح للجميع الرهان على الإسقاط الاقتصادي للدولة السورية بعيداً عن الادعاءات المضللة المحمية خارجياً لقوى مرتبطة برموز الانقلاب الاقتصادي الذي كان مدخلاً لتهشيم البنى الاجتماعية الصلبة، التي كنا قد وصلنا إليها نتيجة تراكم جهود وأموال وأعمال جعلت سورية تضاهي دولاً متقدمة قبل الأزمة وقبل اللعبة الكبرى لحاملي الفكر الليبرالي المحابي لإملاءات البنك الولي وصندوق النقد الدولي، وللسير بقرارات مؤتمر واشنطن الداعية لسحب سيطرة الدولة عن الاقتصاد عبر الحكومة القائدة للعملية الاقتصادية عبر القطاع العام، هذا القطاع الذي ظل صامداً رغم ما جرى من أجل قتله وتخسيره. وما لم يستطيعوا فعله جاء الإرهاب الموجه ليدمر الجزء الأهم من معامله، وكذلك حرية التجارة ومنع الحماية والحمائية، ومنع الدولة من التوزيع العادل لمواردها بذريعة ضرورة رفع الدعم، والغاية الكبرى هي القضاء على الطبقة الوسطة الميزان الحقيقي للمجتمع وحاميته من أي هجوم خارجي عبر أدوات الفساد.
كل هذه التوصيات جاءت لتنفذ بأسلوب الصدمة، عندما عجزت حكومة العطري والدردري من تمريرها، لصمود المؤسسات الوطنية والمنظمات ولممانعة البعث الذي أقر نهج اقتصاد السوق الاجتماعي أسوة بتجارب دول قريبة من تكويننا البنيوي، ولكن الانقلاب حصل وطبق نهج يحابي قلّة على حساب الوطن، نهج هشم البنى الداخلية وأوصل الملايين إلى عدم الاستقرار، وفرض إقحام قوى من القطاع الخاص على العملية الإنتاجية وخاصة الخدمية، بمحاصصة غير عادلة وبتعطيل عمل أغلب المؤسسات العامة الخدمية. وكلنا يعرف أن الاحتكار والتحكم بالمواد وبالأسعار أخطر الأمراض المسرطنة المولدة للأخطار الاجتماعية والاقتصادية. كل ذلك ترافق بضخ إعلامي وبمواكبة قلة من أتباع ذوي المصلحة في إفراغ الروح المؤسساتية لبسط أيديهم على القرار الاقتصادي والسياسي، مدّعين بأن العلاج الوحيد للقطاع العام يكون بالخصخصة، وعندما فشلوا وأفشلوا أي محاولة لإصلاح القطاع العام عبر إفشال اللجان التي تشكلت لذلك، وكانت تقديرات كلفة الإصلاح بحوالي 100 مليار، وهذه الأموال محتجزة لدى الدولة كتراكم لأقساط الاستهلاك السنوي، ولكنهم منعوها لأنهم لا يريدون لا مشاركة ولا محاصصة ولا أي عمل يقوي سلطة الدولة على الحياة الاقتصادية، لأنهم ظانون أن السلطة يجب أن تكون لهم فقط، فراوغوا عبر خصخصة من نوع جديد وهي المشاركة بالإدارة، التي ستتحول إلى خصخصة جزئية لمشاريع ربحيتها أكيدة وبنيتها موجودة وعمالها من ضمن الملاك، كما حصل في محطة حاويات طرطوس واللاذقية وسط عقود تحابيهم على حساب ما يملكه الشعب والوطن. وكان السؤال الذي يُطرح باستمرار: لماذا لا يلجأ هؤلاء لتشاركية تزيد الطاقات الإنتاجية، وتولّد فرص العمل، وتورد الأموال لخزينة الدولة، وتحسّن الأداء؟؟ ورغم كل التسهيلات لم ينفذوا الشروط وجاء من يحميهم. وكذلك في معمل أسمنت طرطوس وصولاً إلى معمل عدرا الذي ترافق بمنع الدولة من استيراد المادة أو تصنيعها وفرض الأسعار التي يريدونها. وكذلك ما حصل في قطاع التأمين والتعليم الخاص والتوكيلات: إقحام محاصصة مع فرض القيود والشروط على عمل القطاع العام.
وجاءت الأزمة التي كانت هذه القرارات جزءاً منها واستمر الأداء وفق النهج نفسه ووفقاً لشروط أكثر تحيّزاً لهم، ووفق رغبة في ابتلاع الأكثر، في ظروف يجب أن يعيد الوطني وقفته مع وطنه الجريح. وهنا يكون دور الحكومة التي نقرّ- معها- بحاجتنا إلى استثمار كل الموارد بما يعيد الانطلاقة، ولكن ذلك يجب أن يكون بما لا يحابي أحداً على ما يملكه الشعب، ووفق رؤى وطنية عادلة ووفق مواقف وطنية.
فمتى تكون التشاركية؟ وما هي ظروفها؟ أكيد عند عجز الدولة عن تأمين مستلزمات المواطنين أو مستلزمات الإنتاج، لظروفها الصعبة، فتفتح الخيارات لتكون التشاركية بين مؤسسات الحكومة من نقابات ومؤسسات تأمين وبنوك، ثم إقامة صناديق مساهمة للاستثمار، وأخيراً تشاركية مع أصحاب رساميل ثبتت وطنيتهم، ولا يفرضون شروطاً غير واقعية ولا يرتبطون بمشاريع خارجية، وكذلك يجب أن لا نغفل أموال المغتربين.
ويبقى السؤال: لمَ التشاركية؟ ولم لا يكون التفكير بخلق طاقات إنتاجية جديدة ومشاريع جديدة؟ أم أن موضوع الربح السريع بأي أسلوب ولو كانت أموالاً سوداء على حساب تجويع الناس وعلى حساب الدماء.
إن وضع جدول احتياجات في الأمد القصير والمتوسط والطويل ضرورة قصوى قبل الخوض بمواضيع كهذه، ووضع أولوية لقطاعات قد تضيف بها قدرات القطاع الخاص وخبرات قيماً مضافة، ولكن ما يلوح أن هناك من يفتح فاه ظاناً أن الحالة الاقتصادية الأزموية قد تفرض على الدولة القبول بصفقات غير عادلة مذعنة، متناغمين مع من يضلل بالأرقام ويهول بالخسائر ليجلب الشركات الأجنبية لدول مولت الإرهاب وشاركت بقتل الشعب، ولقوى معولمة متأمركة تريدها الولايات المتحدة بديلاً عن المؤسسات وتعتمد عليها في استراتيجيتها، الولايات المتحدة التي لا تؤمن بالمؤسسات الحكومية القادرة على مواجهة مشاريعها. إن قتل القطاع العام أو تدميره بأدوات تابعة هو جزء من الخصخصة بعدما عجزت قدرات أصحاب النوايا السوداء عن منافسة منتجاته لثقة المواطن ولرخصها أمام إنتاجه أو أمام استيراد ما يضاهيهها، وإن افتعال الأزمات بمختلف الخدمات طريقاً كذلك لفرض هذه المنتجات، الهدف الأكبر منه هو إخضاع الشعب لتقويض انتصارات المؤسسة العسكرية ولهزيمة الإنسان، لتمرير المشاريع عبر دواعش الداخل بعدما عجز دواعش الخارج وإرهابيوه ومعلموهم عن فرض رؤاهم.
بوجود الكفاءات السورية ومؤسساتنا التي بنت سورية الحديثة، وبانتهاج سياسات إصلاحية إدارية، وبنوايا صادقة، ستعود سورية أقوى وأكثر صموداً، وبالإحاطة بالفساد وتسكير منابعه سنؤمن الكثير من الأموال التي نحتاجها بعيداً عن إملاءات الغير، ولذلك لن نسير مع أي تيار أو إملاءات ما دمنا لم نعمل بنوايا صادقة لإنقاذ القطاع العام وخاصة أن وزير الصناعة السابق قد أقر أن 60 % من مشاكل مؤسساتنا الصناعية تتعلق بإدارات فاسدة فاشلة لم تعين على أساس الكفاءة. القراءة الصحيحة للواقع تجعلنا أقوى وأكثر صبراً وشعبنا قادر على أي مواجهة تفرض عليه وفق ظروف واقعية وليست وفق افتعالات وتمثيليات أزموية.