الطبقة الوسطى.. حاملة التنمية وركيزة الاستقرار الاجتماعي
ندوة مشتركة لجمعية العلوم الاقتصادية.. وجامعة دمشق.. وغرفة تجارة دمشق
بدأت جمعية العلوم الاقتصادية السورية نشاطها العلمي في عام 2017 بندوة تحت عنوان (الطبقة الوسطى – حاملة التنمية وركيزة الاستقرار الاجتماعي) بالتعاون مع غرفة تجارة دمشق وكلية الاقتصاد بجامعة دمشق. تضمنت الندوة محاضرتين، الأولى بعنوان (الوضع الراهن للطبقة الوسطى في سورية) قدّمها الدكتور كريم أبو حلاوة، والثانية بعنوان (الطبقة الوسطى من وجهة نظر اقتصادية – تداعيات الأزمة) قدّمها الدكتور زياد زنبوعة.
الدكتور أبو حلاوة أشار إلى أن مصطلح الطبقة الوسطى يضم في الواقع (كتلة واسعة من الفئات الاجتماعية التي تتباين فيما بينها تبايناً شديداً من حيث موقعها من عملية الإنتاج ومن ملكية وسائل الانتاج، وبالتالي من حجم ما تحصل عليه من الدخل، كما تتمتع بدرجة من الوعي الطبقي فيما بين أفرادها، وبالتالي مستوى من التجانس في المواقف الاجتماعية، والسياسية ) مشيراً إلى أن المقاربة التنموية للطبقة الوسطى، فضلاً عن مقاييس الدخل والإنفاق والمكانة الاجتماعية والتعليم والفرص المتاحة، تعنى بمؤشرين إضافيين هما: المشاركة (والمقصود أوجه المشاركة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومدى عمقها واتساعها وفاعليتها من طرف، ودورها التنموي المأمول من طرف آخر).
تميزت الطبقة الوسطى في سورية بمجموعة سمات ونقاط قوة جعلت منها، حتى عام ،2010 القوة الاجتماعية والاقتصادية الأهم في المجتمع السوري والأكثر حضوراً وتأثيراً في المجالين الخاص والعام، فقد تزايدت القدرات البشرية لأفراد وشرائح الطبقة الوسطى لا سيما في صفوف الشباب والنساء، بدليل تحسّن مؤشرات التنمية البشرية في الصحة والتعليم والدخل، حسبما بيّن التقرير العربي للأهداف الإنمائية للألفية. إلا أن التحولات الإيجابية التي شهدتها الطبقة الوسطى العربية عموماً والسورية منها، ترافقت مع بعض الظواهر والمؤشرات السلبية التي أخذت تعبر عن نفسها بصيغٍ متعددة قبل ما يسمى بحركات (الربيع العربي)، إذ شهدت الطبقة الوسطى المصرية تراجعاً كبيراً بسبب تطبيق سياسات الاصلاح والخصخصة، المترافقة مع تخفيف الدعم الحكومي على السلع الأساسية والطاقة، فتراجعت الطبقة الوسطى، فالتعليم مثلاً، بعد أن شهد توسعاً كبيراً بمستوييه الأساسي والجامعي وشمل معظم المناطق والأرياف واقتربت معدلات الأمية والتسرب لتقارب مستوى البلدان عالية التنمية، بقي إلى درجة كبيرة تطوراً في الكم لا في الكيف، أي أن التوسع الكبير في انتشار التعليم لم يترافق بارتقاء مماثل في نوعيته، وبدأت الفجوة بين مخرجات المؤسسات التعليمية وحاجات سوق العمل بالاتساع.
كيف يمكن للطبقة الوسطى أن تكون قاطرة للتنمية وركيزة للاستقرار الاجتماعي؟
أشار د. أبو حلاوة إلى ذلك يتحقق من خلال استعادة الاستقرار الأمني والمجتمعي وإنهاء الحرب ودحر الإرهاب، فدون استقرار داخلي وإنهاء العنف والتطرف والإرهاب يصعب الحديث عن دور فاعل للطبقة الوسطى في الاستقرار الاجتماعي، أي عبر الاستفادة من الفرص المحايثة للأزمات، إضافة إلى أن المشاركة الواسعة لأفرادها في عملية إعادة الإعمار، وعلى أسس تنموية جديدة لا بد أن تتضمن: إدارة تنموية أو حوكمة رشيدة تأخذ بعين الاعتبار مسائل حكم القانون والمساءلة والشفافية والتضمينية، وهي المدخل العملي لمكافحة الهدر والفساد، والعمل وفق معايير التنافسية والجودة، إضافة إلى اعتماد المعايير العلمية في دراسة وتخطيط الإعمار التنموي (العمران) وترسيخ الكفاءة والتخصص والتقييم في التنفيذ، فالثروة في قدرات السوريين وفي ذكائهم ورأسمالهم البشري، وبهذا ننتقل تدريجياً من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المبني على المعرفة. كما يتحقق ذلك عبر تشجيع أوسع الفئات والشرائح الشبابية المهاجرة للعودة والمساهمة في بناء سورية المستقبل، وهذا الأمر ينطوي على وجه اجتماعي هام، ويتصل ببناء اللحمة الوطنية والتضامن الاجتماعي على المدى الطويل. ومن خلال العمل على خلق بيئة تنموية موسّعة وقابلة للبقاء تأخذ بعين الاعتبار معايير الاستدامة والبيئة وتوزيع الموارد على الأجيال وعلى المناطق ، وذلك لضمان توزيع أكثر عدلاً لثمار التنمية المنشودة، وبذلك يمكن للطبقة الوسطى السورية أن تكون حاملة التنمية وركيزة للاستقرار الاجتماعي ومساهمة في تحسين نوعية الحياة
وخلص المحاضر إلى مجموعة من التوصيات منها:
* تحويل الاستثمار في التعليم إلى خيار سياساتي يتجاوز مسائل نشر التعليم وتوسيع قاعدته، صوب التركيز على نوعيته وارتباطه بحاجات سوق العمل ومستجداته، كي يساهم في رفع الإنتاجية، وتعظيم العائد من التعليم بوصفه أحد محركات النمو الاقتصادي المستدام وأحد أهم أهدافه في آن معاً، وبهذا تستعيد الطبقة الوسطى السورية الكثير من مزايا قوتها وألقها، فهي تمتلك القسم الأعظم من الكفاءات المتعلمة والمدّربة والقادرة على ترسيخ مكانة المعرفة في المجتمع وتحويلها إلى أحد أهم عوامل الحراك الاجتماعي الصاعد.
* الاستفادة من الفرص المصاحبة للأزمات، فالدروس المستفادة من الأزمة والحرب على سورية عديدة وعميقة وقد دفعنا فيها أثماناً باهظة، وقد غيرت إلى هذا الحد أو ذاك فهمنا ومداركنا، وأجبرتنا على إعادة النظر نقدياً في الواقع وفي وعينا به وموقفنا منه.
تواجه شرائح واسعة من الطبقة الوسطى في سورية قلق الهبوط إلى الطبقة الفقيرة، بسبب ما أصاب مصادر دخلها من مخاطر وأضرار، هذا فضلاً عن قلق الخوف على أبنائها، وهو الذي دفع بالعديد منهم إلى الهجرة واللجوء والنزوح، أو الانتقال إلى المناطق الأكثر أمناً التي تقع تحت سيطرة الدولة.
تبيّن المعطيات المتوفرة أن غالبية موجات اللجوء والهجرة إلى أوربا بشكل خاص كانت من فئة الشباب الخريجين والحاصلين على تعليم جامعي وعالٍ ومن ذوي الكفاءات، هذا ما ينطبق على الشباب الذين هاجروا من المناطق الآمنة نسبياً، الأمر الذي شكّل نزيفاً بشرياً وتنموياً حاداً، ذلك لأن إعداد كفاءة علمية واحدة يحتاج إلى مليون دولار ونحو 20 سنة، هذا إلى جانب ما ينطوي عليه ملف اللجوء من معاناة إنسانية وتجارة ومافيات وأجندات سياسية سوّقتها وروجت لها البلدان الأوربية المستفيدة وخاصة تركيا وألمانيا.
يبقى الرهان التنموي على عودة الاستقرار والبدء بعملة إعادة الإعمار هو أكثر الخيارات واقعية ، بما يتيحه للطبقة الوسطى وبقية فئات المجتمع السوري من فرص تستحق أن نعمل جميعاً للوصول إليها.
.. تداعيات الأزمة
الدكتور زياد زنبوعة في محاضرته عن (الطبقة الوسطى من وجهة نظر اقتصادية – تداعيات الأزمة) عرّف الطبقة الوسطى بأنها تلك الطبقة التي يتجاوز دخلها خط الفقر الأعلى من جهة أولى، ولا تصل إلى خط الثراء من جهة ثانية، وتشمل – بشكل خاص- فئات المجتمع ذات التعليم المتوسط والعالي من جهة ثالثة. وأشار إلى انخفاض نسبتها في المجتمع السوري من 60% في عام 2010 إلى 9,4% في عام 2016 وارتفاع نسبة السكان تحت خط الفقر من 28% في عام 2010 إلى 43% في عام 2013 وإلى 86,7% عام 2016 وارتفاع تكاليف المعيشة بنسبة 1020% وارتفاع خط الفقر العالمي 1,9 دولار من 88ل.س عام 2010 إلى 980 ل.س عام 2016 وانخفاض القوى الشرائية لليرة السورية من عام 2010 إلى عام 2016 بنسبة 91% في الوقت الذي ارتفع فيه متوسط راتب الموظف من 16000 ل.س في عام 2010 إلى 28000 ل.س في عام 2016 أي بنسبة 75%، مستنتجاً أن راتب الموظف المتوسط يجب أن يكون في الوقت الحالي بحدود 180 ألف ليرة سورية شهرياً لكي يتمكن من العيش ضمن الظروف ذاتها التي كان يعيشها قبل اندلاع الحرب، (بافتراض أن الدولار كان 46 ليرة وأصبح 515) هذا الحساب ينطبق على المناطق الواقعة تحت سيادة الدولة ولا ينطبق على المناطق الساخنة أو المحاصرة حيث تتفاقم الأمور أكثر من ذلك بكثير.
وحسب رأي د. زنبوعة أدت الإصلاحات الاقتصادية، والتحرر الاقتصادي، وتنامي دور القطاع الخاص، الذي شهدته سورية في العقد الأول من الألفية الثالثة إلى أمرين هامين: تراجع الفقر المدقع من جهة، واتساع الطبقة الغنية والطبقة الوسطى في المجتمع من جهة ثانية. نستنتج أن التوجه الاقتصادي التحرري الذي كان سائداً في سورية آنذاك كان صائباً على صعيد نمو الدخل ورفع مستوى المعيشة وخاصة أن طبقة موظفي الدولة (وقسم لابأس به منهم ينتمي إلى الطبقة الوسطى) تحسنت أوضاعهم الاقتصادية بالمقارنة مع موظفي القطاع الخاص، مما ساعد على اتساع رقعة الطبقة الوسطى. ولكن للأسف فإن هذا التوجه الاقتصادي السليم وصل إلى عنق الزجاجة عندما لُجم بالتوجه السياسي للدولة، فخنقت السياسة الاقتصاد، وهنا كان مربط الأزمة التي تفجرت في البلاد، فقد أصبح لدينا قوى منتجة متنامية وبالمقابل علاقات إنتاج وبنية سياسية متخلفة.
الانهيار-كمّياً ومعنوياً- في الطبقة الوسطى تفاقم في الأزمة و أخذ مناحي عديدة، منها الاغتراب والهجرة والقتل أو الاعتقال وخسارة الأموال والممتلكات وتآكل دخول الموظفين وتدهور مستوى معيشتهم لما دون خط الفقر، وتماهي بعضها مع السلطة وتواطؤ بعض أقطابها مع رموز الفساد والإفساد في البلاد، كما لجمت الأوضاع الأمنية والعسكرية الطبقة الوسطى من الانخراط في معالجة الأزمة والمساهمة في الحل.
وخلصت المحاضرة إلى التوصيات التالية:
* المطالبة برفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن الشعب السوري.
* التركيز على مسار المصالحات والتسويات وليس الحروب، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
* زيادة الإنفاق الاستثماري وتخفيض الإنفاق الاستهلاكي والعسكري.
* ملاحقة تجار الأزمة والمحتكرين وتجار الحروب والفاسدين.
* دعوة المهجّرين السوريين، من مفكرين ومثقفين ومعلمين وحقوقيين وأطباء ومهندسين ورجال أعمال وصناعيين وحرفيين وغيرهم من عماد الطبقة الوسطى، إلى العودة إلى وطنهم الذي لن ينهض إلا بمساهمتهم في بنائه.
* العودة إلى الدولة المدنية ولكن بحلّة مختلفة عن سابقتها، تكون فيها المنظمات المدنية موئلاً حقيقياً للطبقة الوسطى ركيزة التنمية والتنوير والتغيير.
لابد من الإسراع وبشكل إسعافي بدراسة الوضع المعيشي للمواطن بشكل عام والموظف بشكل خاص، بسبب وصوله إلى ما دون حالة الفقر المدقع الذي سيخلف كوارث لا تُحمد عقباها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وامنياً، ولذلك لابد من الإسراع بوضع خطة إسعافية لترميم الرواتب شبه المعدومة.