كي لا ننسى “حنا أصلان”…شيوعي أرمني انغرست جذوره عميقاً في الأرض

في الجزيرة السورية المنسية، وفي أوائل الثلاثينيات، ولد حنا أصلان من عائلة أرمينية عانى أسلافها من جور الاضطهادات التركية، وهاجروا إلى سورية نتيجة ذلك، فاحتضنهم شعبها، وتحولوا تدريجياً إلى جزء مكون من مكونات الشعب السوري، قدم الكثير من أجل حرية البلاد واستقلالها.

عانت أسرة حنا أصلان من مشقات الحياة التي كانت صعبة آنذاك على معظم شرائح الشعب السوري، وخصوصاً في المناطق البعيدة عن مركز البلاد كالجزيرة.. وشبّ حنا في هذه الظروف، وبدأ تعليمه في مدارس المنطقة، ليحصل على الشهادة الثانوية ويتخرج في الجامعة محامياً، كرّس حياته للدفاع عن مصالح الفقراء. لقد كان للأرمن دور مميز في نشوء الحركة العمالية في البلاد منذ أعوام العشرينيات، كانوا الأوائل الذين بدؤوا بتعريف الشعب على الفكر الاشتراكي، وبرز منهم فيما بعد عدد غير قليل من المناضلين الذين وهبوا حياتهم لقضية الوطن والشعب. كان من الطبيعي أن ينخرط حنا أصلان في النشاط الوطني والمعادي للإقطاعية في منطقته، وهو الذي نشأ في هذه البيئة، ووجد نفسه إلى جانب الحزب الشيوعي الذي أصبح عضواً فيه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وخاض معه جميع معاركه الوطنية والاجتماعية دون تردد.

لقد كان يدافع عن مصالح الفلاحين دون تمييز، لا من حيث القومية ولا من حيث الدين، واكتسب نتيجة ذلك سمعة عطرة بين فقراء منطقته. في عام 1959 يعتقل حنا أصلان مع الكثيرين غيره من المناضلين في منطقة الجزيرة، ويعذب ويأتون به إلى سجن المزة، حيث يرسو به المطاف، وفي السجن يتعرض للضغوط كسائر المعتقلين لأجل التخلي عمّا يؤمن به.

تعرفت على الرفيق حنا في السجن، وأثار انتباهي معرفته الواسعة للغة العربية واللغة الأرمينية واللغة الكردية، وبعض الشيء باللغة التركية. ومن خلال اشتراكي معه في مجموعة الطعام، تعرفت على هذا المناضل جيداً. كان الحنين إلى البعيد، إلى آفاق غير محدودة تغمر كيانه، وخصوصاً عندما يتحدث عن التاريخ والمستقبل.. وكان يملك صوتاً جميلاً، وخصوصاً عندما يغني باللغة الأرمنية عن يريفان، وكان يتحدث دائماً عن مصائر الشعوب، وعن اندماج الدم الأرمني مع الدم السوري. وعن شعوره العميق بالانتماء إلى الوطن الأم سورية، كم من الليالي كنا نجلس حوله وهو الذي كان يكبرنا بأعوام ونصغي له وهو يتحدث برومانسية عن المستقبل الذي ينتظر سورية، وعن مشاريعه المستقبلية إذا قيض له الخروج من السجن. كان رفيقاً دون حدود وأحبه جميع المعتقلين ببساطة ودون زيف.. لم أسمع منه خلال كل فترة السجن التي قضيناها معاً كلمة تخرج عن سياق الاحترام لرفاقه.. كان نبيلاً دون حدود.

خرج المعتقلون من سجن المزة بعد سقوط الوحدة، والتقيت معه من جديد في دمشق في مظاهرة ضد السفارة الأمريكية تضامناً مع كوبا، وفي مسيرة من أجل الحريات، واستطعنا معاً التخلص من الاعتقال ، ولم أره بعد ذلك، ولقد علمت أن المنية قد وافته وأنا خارج الوطن.

كان محزناً جداً أن يغادر الحياة مناضل كحنا أصلان باكراً، وهو الذي كان مفعماً بالأمل والحياة والمشاريع المستقبلية، إلا أن الحياة هي هكذا، إنها تفاجئ وتوجه ضرباتها المؤلمة بصورة مفاجئة دون إذن ودون إعلان، إلا أن تراث هذا المناضل الكفاحي لن يذهب هدراً، إنه ينضم إلى تراث الكثيرين من أبناء سورية الأرمن الذين دفعوا ضريبة الدم من أجل حرية سورية ومستقبلها المشرق.

العدد 1136 - 18/12/2024