حل الأزمة السورية صكّ إقليمي لقبول التغيرات الدولية
في الوقت الذي تحقق فيه إجماعٌ دولي على حل الأزمة السورية، يغيب الإجماع حول كيفية هذا الحل. وهناك انقسام دولي كبير على استراتيجية إدارة الصراع في الأزمة السورية ككل، وليس فقط فيما يتعلق بالحل السياسي، وذلك بين محور غربي-عربي يقيادة أمريكية من جهة، ومحور روسي- إيراني والصين لدرجة ما من جهة أخرى، إنما على آليات متباينة ونهجين مختلفين كلياً، إذ لا يوجد في هذا المحور الروسي-الإيراني مركز أو دولة محددة لتلعب دور(المايسترو الأمريكي) كما في المحور الأول، وهي غير منضوية في حلف أو منظمة دولية أمنية مثل الناتو، ولا توجد استراتيجية علنية بين روسيا وإيران متفق عليها في إدارة الأزمة السورية، وإنما نوع من ضبط المواقف وتوحيدها بالقدر الممكن. على الرغم من ذلك يتمتع المحور الثاني عبر روسيا والصين بحق الفيتو في أهم منظمة دولية؛ مجلس الأمن، وحق الفيتو يشكل قوة ذاتية بحد ذاته. إن حضور روسيا بقواها العسكرية، وإيران الدولة ذات التأثير الإقليمي الهام، قد حددا بشكل حاسم تطور مسار الأزمة السورية خلال السنوات الماضية، فقد منع هذا الحضور، إلى حدّ كبير، المحور الغربي-العربي من أن يتمادى في إدارة الصراع على سورية منفرداً. هذا لم تدركه حتى الآن السعودية، إذ تعتقد أن قدراتها المالية الهائلة وسلاح الإيديولوجية الدينية لديها قادران على وقف التغييرات الدولية المتسارعة حول تحديد مستقبل المنطقة ككل وليس سورية فقط.
في الحقيقة لم تتوقف ردود الفعل السعودية من اللحظة الأولى ،ولو بشكل غير معلن، ضد دخول القوات الروسية إلى الحرب في سورية. ووضعت السعودية ومعها تركيا جملة من التكتيكات السياسية والعسكرية لإعاقة أي حل سياسي يمكن أن يتحقق عن العملية العسكرية، ومحاولة إفشالها حتى لو كان بالحد الأدنى، أو تحويلها إلى عملية استنزاف كما حصل في التجربة الأفغانية. وفي حين ترى الإدارة الأمريكية أن سورية بالنسبة إلى روسيا ستكون مأزقاً، ترى هذه الأخيرة أن هذا غير وارد، فروسيا ليست الاتحاد السوفييتي، وسورية بجملة بنيتها السياسية والتاريخية ليست أفغانستان، وتعتبر روسيا أن تحقيق النجاح في الحرب ضد القوى المسلحة غير المنضوية تحت الدولة السورية هي أهم ضمان لنجاح العملية السياسية في سورية. إن عدم إدخال الأكراد السوريين ضمن العملية السياسية- حسبما تناور كل من السعودية وتركيا- هو موقف مُعلن لرفض العملية السياسية في سورية.
لقد هدد كيري بشكل مبطن في اجتماعه مع وزراء خارجية دول الخليج في 23 الشهر الماضي المعارضة السورية المنبثقة عن مؤتمر الرياض بتخلي حلفائها عنها، إذا لم تشارك في المفاوضات المقبلة، وهذا التهديد هو إشارة مباشرة إلى السعودية الحاضن المطلق لهذه المعارضة في أن المسار الذي ترسمه الولايات المتحدة مع روسيا هو الذي سيتحقق في النهاية، وليست سياسة الأمر الواقع التي تنتهجها المملكة في الملف السوري. هذا يعكس ما تمرّ به العلاقات الدبلوماسية بين السعودية والولايات المتحدة، إذ تواجه الرياض صعوبة في التواصل الدبلوماسي مع إدارة أوباما، حول مخاوف المملكة الداخلية من التحولات الدولية المترافقة مع الاتفاق النووي الإيراني وانخفاض أسعار النفط.
هذه المخاوف أصبحت أكثر جدية وأكثر تعقيداً بالنسبة للمملكة. ففي الشق الإيراني، هناك تقارب متسارع بين الغرب وإيران تدفعه الفرص الاستثمارية الكبيرة المنشودة من زيارة الرئيس روحاني لأوربا، التي سيتبعها بالضرورة خروج إيران من عزلتها الدولية في المجالات السياسية والثقافية والمصرفية والتقنية وغيرها من المجالات الأخرى. وترى الرياض أن أولى نتائج الانفتاح الدولي على إيران هو فقدان زعامتها على المشرق العربي، الذي استمرت تهيمن عليه منذ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وقد شكّل الفكر الوهابي أداة شديدة الفعالية بيد هذه المملكة لتحقيق المكاسب السياسية الخاصة بها، حتى لو اقتضى الأمر التعاون مع نظم (علمانية) في المنطقة، كما حصل سابقاً في سورية والعراق وتونس، ما دامت هذه الأنظمة تتغاضى عن حضور الفكر الوهابي في مجتمعاتها، ولا تتصادم مع التوجهات العامة للمملكة.
بالتأكيد الصدام الإيراني-السعودي لن يصل إلى المواجهة العسكرية المباشرة، لكنها ستتأجج في بلدان المشرق التي تشهد أوضاعاً أمنية وعسكرية خطيرة، بالتحديد في سورية، على شكل حرب بالوكالة لن يكون فيها خاسراً إلا الشعب السوري. إذ إن الوقائع الميدانية في شمال شرق سورية، إذا بقيت على هذا النحو من زيادة تدريجية للوجود العسكري الأمريكي، فإنها ربما ستؤسس لمرحلة قادمة من التقسيم لا يمكن تفاديها إلا بعملية سياسية جامعة لكل الأطياف السورية السياسية والاجتماعية. إن قبول الحكومة السورية مبدأ التفاوض، بالترافق مع فتح الجيش السوري مع بداية عام 2016 بمساعدة حلفائه عشر جبهات، على ما قاله الناطق باسم القوات الجوية الفضائية الروسية – هو فقط سيدفع بالسعودية وتركيا وغيرهما ممن يدعمون المعارضة إلى القبول بالأمر الواقع، والوصول إلى صيغة ما للحل السياسي خلال الشهور الستة القادمة، الفترة التي يحتاج إليها الشرق الاوسط لتقبّل التغيرات الدولية التي فرضها الدخول الروسي الجديد على لعبة التوازنات الدولية مع الولايات المتحدة في المنطقة، والتي نأمل أن تتوّج ببقاء الجغرافيا السورية موحّدة بنظام سياسي علماني يحقق طموحات المجتمع السوري.