كي لا ننسى …لبيب عرنوق….المناضل الذي ظل محتفظاً بكرامته وإنسانيته حتى النهاية
في بلدة متن عرنوق، المتربعة على إحدى هضاب مدينة طرطوس الشمالية دائمة الاخضرار، والمشرفة على البحر، يولد لبيب عرنوق في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، من أسرة ميسورة ومثقفة وفرت له كل سبل الحياة السهلة.. كان كل شيء في متناول يده في تلك الظروف الصعبة التي كانت تعيشها البلاد. إن الأسرة التي كان عدد غير قليل من أفرادها قد تغرّب وهاجر إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، وأحرزوا هناك الكثير من النجاح، لم تكن تعاني من أي عوز أو حاجة، وبصورة عامة كانت البلدة تعيش أوضاعاً مميزة نسبياً بالنسبة إلى القرى والبلدات المجاورة، حيث يسود الإقطاع والفقر والمرض والأمية.
لقد وفرت ظروف الأسرة المريحة بالنسبة لتلك الأزمان، للفتى لبيب، أن يتعلم في أفضل مدارس طرطوس، ويجتاز المرحلة الابتدائية والثانوية بنجاح وتفوق، إلا أن ما كان يحزن هذا الشاب، هو مظاهر البؤس التي كانت تسود الأرياف المجاورة، وعدم قدرة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب على التعلم، وكان يرى بأم عينيه جور الإقطاعيين وأتباعهم واستغلالهم للفلاحين الذين كانوا يعانون الأمرّين منه.
كانت قد بدأت في طرطوس في أوائل الأربعينيات من القرن السابق حركة ماركسية نشيطة في أوساط الطلبة الذين كان جلهم من الأوساط الميسورة في المحافظة، بتأثير من الأديب والمناضل الماركسي رئيف خوري الذي عمل في مجال التدريس في طرطوس في أوائل الأربعينيات. ويتأثر الشاب لبيب بسبب شفافيته وكرهه للظلم بهذا الوسط، وعلى الأخص نتيجة التأثير الذي مارسه عبد الكريم طيارة الذي أصبح معروفاً على نطاق المحافظة آنذاك مناضلاً من أجل الفلاحين الفقراء والعمال، ويرى نفسه منخرطاً تدريجياً في صفوف الحزب الشيوعي السوري، ومناضلاً بحماس من أجل تحقيق أهدافه التي يناضل من أجلها..
لقد خاض مع الحزب نضالاته الوطنية ضد الأحلاف والديكتاتوريات المتعاقبة، ومن أجل الديمقراطية والعدالة، ولم يتوان عن ذلك مطلقاً، وعندما انتقل إلى دمشق ليتابع دراسته في كلية العلوم قسم الرياضيات التي أحبها كثيراً، شارك مشاركة نشطة في الحركة الطلابية، وكان من الأعضاء البارزين فيها. بعد التخرج قام بتدريس مادة الرياضيات في عدد من ثانويات محافظة طرطوس وغيرها، مقدماً نموذجاً للمدرس الذي كان يفهم متطلبات التلاميذ العلمية، ويرفض التلقين، ويلجأ إلى المناقشة والحوار مع طلابه، ولا يزال يتذكره الكثيرون الذين درسوا عنده هذه المادة.
تأتي الوحدة بصورة سريعة وغير مدروسة، ويعلن الحزب الشيوعي موقفه منها.. لقد أكد ضرورة أن لا تأتي اعتباطية، وأن تكون راسخة، لأن فشلها ستكون له تبعات كارثية على الشعوب العربية بأسرها، وعوضاً عن أن يتم تقدير موقف الحزب تقديراً صائباً، لأنه جاء من منطلق الحفاظ على تعزيز الوحدة والحرص عليها، شُنّت حملة مسعورة على الحزب، وبدأت الاعتقالات فطالت الآلاف من الشيوعيين والتقدميين، لتنتقل بعدها إلى جميع فئات الشعب السوري السياسية.
يعتقل المدرس لبيب عرنوق، ويُزجّ في سجن المزة، ويتعرض للضغط والترهيب والحجز الإفرادي، إلا أن إرادة الصمود وقناعاته العميقة بعدالة ما يؤمن به جعلته يرفض جميع الطلبات التي قدمت إليه كي يعلن استقالته من عضوية الحزب الشيوعي، ويستمر على موقفه هذا طوال ثلاث سنوات، ليخرج بعد ذلك، وبعد انهيار حكم مباحث السراج من السجن، وليضع نفسه تحت تصرف الحزب الشيوعي السوري، ليتابع نضاله في صفوف الحزب بكل حيوية وحماس.
يرسله الحزب إلى المدرسة الحزبية العليا في الاتحاد السوفييتي، لينتقل بعدها إلى جامعة موسكو لمتابعة دراسته في مجال الاقتصاد السياسي، وليتبوأ مركزاً متقدماً في الحركة الطلابية خارج الوطن.
يعود إلى الوطن ويعمل في صفوف الحزب، ويستلم مهام قيادية في منظمة محافظة طرطوس، إلا أن ما أصاب الحركة الشيوعية من انقسامات غير مبررة نتيجة الأزمة التي عصفت بالحركة الوطنية عموماً لا في سورية وإنما في العالم العربي، دفعته تدريجياً إلى أن يبتعد تنظيمياً عن الحزب، دون أن يتخلى عن إيمانه العميق بعدالة القضية التي أعطاها حياته كلها.
التقيت به في منزله المتواضع في طرطوس قبل وفاته بنحو شهر، وتحدثنا عن الحركة الشيوعية وعن الحزب وتراثه وتضحياته.. كان حزيناً جداً بسبب تبعثره، وكان خائفاً من ضياع هذا التراث النضالي الغني للحزب، وضياع تضحيات آلاف الشيوعيين الذين بنوه لبنة لبنة، نتيجة هذه الحالة التي أوصل الشيوعيون أنفسهم إليها.
لقد أكد لي وأنا أودّعه أن النزعة الإنسانية العميقة هي التي يجب أن تكون عميقة ومتجذرة في أي حزب يسعى كي يكون معبراً عن المستقبل، إن هذه النزعة يجب أن تعلو على أي شيء.. لقد ودعته وأنا أشعر بغصة في القلب، كان لدي شعور بأن هذا اللقاء سيكون الأخير.