كي لا ننسى…جابر عبيد.. المناضل الطلابي الذي بقي مخلصاً لإنسانيته

 دير الزور عروس الفرات، وجميلة جميلات مدنه، والتي نشأت في ضواحيها الحضارات السورية العريقة، وتملك تراثاً وطنياً يضرب عميقاً في تاريخ الوطن، في هذه المدينة التي خرج منها الكثير من الشخصيات الوطنية والتنويرية يولد جابر عبيد، في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي.

كان الشعب السوري وحركته الوطنية في أوج نشاطهما، ولم تكن المظاهرات والإضرابات المطالبة بالاستقلال لتهدأ، وكانت الحركة الطلابية آنذاك تتميز بالحيوية الكبيرة، وبانخراطها الواسع في النضال الوطني، تلك هي الأجواء التي عاصرها الطالب جابر عبيد وهو يتعلم في مدارس مدينته، ويعيش فرحة جلاء الاستعمار الفرنسي عن البلاد. كانت الحياة السياسية في تلك المدينة التي تختلط فيها البداوة مع المدينة مصطخبة وتعج بمختلف التيارات السياسية، ويتأثر الطالب الفتى جابر عبيد بأجواء مدينته، وتنمو لديه الاهتمامات السياسية التي قادته في أوائل الخسمينيات من القرن الماضي للارتباط بالحزب الشيوعي السوري، بتأثير شخصيات ماركسية بارزة آنذاك في المدينة وعلى نطاق البلاد أمثال ثابت العزاوي، هذا الرجل التنويري وصديق الحزب الشيوعي، والذي بقي وفياً لأفكاره طيلة حياته ودفع من أجلها ضريبة كبيرة.

ينهي اليافع جابر عبيد الشهادة الثانوية في مدينته، ويذهب إلى دمشق ليدخل كلية الطب، وهناك يتحول تدريجياً إلى قائد طلابي مارس دوراً هاماً في الحركة الطلابية التقدمية، وأصبح عضواً قيادياً في منظمة الحزب الشيوعي السوري في جامعة دمشق. ورغم نشاطه الكبير في صفوف الحركة الطلابية، إلا أنه استطاع التوفيق بينه وبين دراسته، وكان أحد الطلاب المتفوقين رغم أعبائه الحزبية والطلابية.

اشترك الشيوعي جابر عبيد في جميع نضالات الحزب آنذاك، الموجهة ضد الديكتاتوريات والأحلاف العسكرية، ومن أجل ترسيخ الديمقراطية وقيمها. ولقد كان لنشاطه الاجتماعي دور مؤثر، واستطاع إقامة صلات مع الكثير من الطلاب، وأثر على قسم هام مهم.

تعرفت عليه عام ،1957 ولقد تأثرت بتواضعه الجمّ وحميميته، وهذا ما جعله محترماً ومحبوباً من جميع من عمل معه. لم تستطع الديمقراطية السورية أن تأخذ مداها، وأن تترسخ عميقاً في وجدان الشعب السوري.. فقد تلقت ضربة قاصمة عندما أخذ التطور يجري نحو الديكتاتورية بعد قيام الوحدة، التي أخذت تنحرف تدريجياً عن المنحى الذي كان يجب أن تجرب به، وتُشَنّ حملة واسعة من الاعتقالات شملت الشيوعيين في البداية، وتوسعت لاحقاً لتشمل كل من كان ينتقد هذه التدابير التعسفية، ولتصبح عامة بعد ذلك.. ويعتقل الشيوعي جابر عبيد، ويزجّ به في سجن المزة، ويتعرض للاضطهاد والتعذيب للتخلي عن أفكاره، شأنه في ذلك شأن الكثيرين. وخلال ثلاث سنوات من أيام الوحدة، تحولت سورية إلى سجن كبير، ربما كان المعتقلون السياسيون هم الأكثر حرية من بين أبناء الشعب السوري. لقد كانت هذه الممارسات سبباً أساسياً في انهيار الوحدة التي كانت يجب أن تشكل أرضية لتلاحم جميع العرب في نضالهم من أجل تحررهم السياسي والاقتصادي.

يتابع جابر عبيد دراسته بعد خروجه من السجن، ويصبح طبيباً معروفاً في دير الزور ومحيطها، وبالرغم من ابتعاده التنظيمي عن الحزب لأسباب لا مجال لذكرها، إلا أنه بقي محافظاً على أفكاره وإنسانيته، وطبيباً قدم كل ما يستطيع للتخفيف من معاناة الفقراء الذي سمي باسمهم. لقد بقي طوال حياته إنسانياً صادقاً مع أفكاره، مقدماً نموذجاً للصدق مع الناس، الذي يجب أن يكون معياراً حقيقياً لكل إنسان أو حركة.

العدد 1140 - 22/01/2025