الهشيم والهويَّات الخاصَّة…
أنْ نقول بأن النار تحرقُ الأخضر واليابس فهو قول طبيعي وعادي، أما الغريب فهو أن يكون هناك نارٌ تحت الهشيم تسير في غير اتجاه النار التي فوق الهشيم.
هذا ما يحدث في الحرب التي تجري حالياً في منطقتنا العربية، فإنَّ ما يحدث في الظاهر هو غير المخطط له والمراد منه في الباطن، لذلك ربما تطول هذه الحرب، بسبب ظهور مفاجآت جديدة دائماً وفي كل لحظة، تلك المفاجآت التي لم تكنْ لا في البال ولا في الحسبان.
قد نكررُ دائماً وفي أي حديث بأن الوطن في أحد معانيه التعريفية يعني نسيجاً واحداً منسوجاً من تشابك الهويات القومية والعرقية والدينية والعقائدية والسياسية والثقافية معاً، إلى ما هنالك من الهويات المنفردة التي لا يمكن لها الحياة خارج التشابك مع هذا النسيج الواحد دون منّةِ أو تمييز أو تفضيل هوية على أخرى.
والتكرار في هذا الكلام يأتي نتيجة محاولة بعض هذه أو تلك الهويات الانفصال عن هذا النسيج، فلا تكون النتيجة إلا التمزق والاحتراق لتلك الهويات المنفصلة التي لا يمكن أن تشكِّل نسيجاً بمفردها، لأن النسيج الحقيقي يحتاج إلى الكثير من المقومات والإمكانيات ليصبح قوياً في تشابكه، وليؤدي الغرض المطلوب منه بالشكل الصحيح.
والتكرار أيضاً يأتي لأن حوادث التاريخ، على ما يبدو، تتكرر دون الاستفادة من العِبَر والنتائج السابقة، فلم يستفدْ أحدٌ من دروس التاريخ وتجاربه التي حدثت في هذا المجال، تلك التجارب التي لم ينتجْ عنها سوى الخسارة البشرية والاقتصادية والحضارية والأخلاقية للجميع.
في بداية الوجود البشريِّ كانت الصفات الإنسانية الواحدة والموحدة وحاجات الوجود الطبيعي المشترك تشمل الجميع بلا تفريق، لم يكن هناك ما يميز الإنسان الفرد عن الآخر، ولا يوجد وشم يميز جماعة عن أخرى، وكانت تلك الصفات الموحدة هي الإيجابية الأولى للتكوين الإنساني. أما ما حدثَ بعد ذلك فقد بدأ ينتشر مفهوم الوشم الديني، بعد أن كان التوحيد لقوة عظمى هي الإله الواحد، حدث أن تعددت الفلسفات والأفكار والعقائد حول طرق عبادة هذا الإله، وصارت لكل جماعة فلسفة وطريقة لا تعترف بالطرق الأخرى، ومن هنا بدأت المشكلة الكبرى في تقطيع المجتمعات، فحدث تفكيك للحالة الجمعية البشرية الطبيعية وتقطيعها إلى فئات متناقضة متناحرة بعيداً عن أصول الإنسانية وقواعدها.
ثمَّ جاء تقطيع الإنسانية مرة أخرى بانحياز كلّ جماعة إلى لغة وتاريخ وتراث مستقل عن الجماعات الأخرى، فكانت القوميات وصار التنافر والتمايز والتمييز العنصري.
حاول الفكر الثقافي والحضاري، الذي يؤمن بأن الإنسانية كانت قبل الأديان وقبل القوميات، أن يعيد دمج هذه الأديان وهذه القوميات تحت راية الفكر العلماني الذي يوحد الإنسانية بعيداً عن القومية والدين، والعودة بهذه الجماعات المتنافرة إلى حضن الإنسانية، لكن هذه العلمانية التي تسعى إلى التشاركية الكاملة، كانت تنجح في مهمتها لفترة صغيرة، ثمَّ ما تلبث أن تنشب الصراعات من جديد، لأنه لم يتحقق إخماد النار تحت الرماد، تلك النار التي تشعلها الهويات التابعة لانتماءات فردية وعنصرية لا تعترف بالآخرين، وهي تعمل على الانفصال والاستقلال بذاتها عن المجموع الإنساني المشترك، وتعمل على حرق الهويات الأخرى، فيحدثُ أن تحرق نفسها قبل أن تحرق غيرها.
ما يحدث الآن في منطقتنا ناتج عن سوء استخدام الهويات العنصرية الخاصة بكلّ طائفة وكل دين وكلّ قومية، قبل أن يكون ناتجاً عن تدخُّل القوى الخارجية الكبرى التي تستغل هذه الخلافات والصراعات، لتحقيق مصالحها الإمبراطورية في السيطرة على أغلب ما يمكنها السيطرة عليها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.