مناقشة حول مقولة «ازدياد الأغنياء غـنى والفقـراء فقراً»

 لقد احتل التوجه المنادي بالمساواة موقعاً بارزاً في حلبة الرأي السياسي، وترددت إشارات كثيرة لمقولة (ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً). إن هذا الاعتقاد الراسخ لدى الكثيرين قد ازداد رسوخاً في ضوء الإحصاءات المتعلقة بالدخول خلال الـ15 عاماً الأولى من القرن الحادي والعشرين، بحيث أصبح هذا الأمر لا يرتقي إليه الشك.

إن الكثير من الاقتصاديين مقتنعون بهذه الفكرة، لدرجة أنهم يعتبرون أن أي شخص يقترح تقييماً نقدياً لصحة الاستنباط الشائع لمقولة إن (الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً) من الإحصاءات بمثابة أداة مدافعة عن اليمين وعن استغلال الفقراء الذي يعتبر مصدر ثروة الأغنياء.

تعكس إذاً هذه المقولة عمليات توليد الثروة وتوزيعها، إذ يتمتع الأغنياء بمزايا منفردة عن الفقراء، وبالتأكيد يستطيع المرء أن يفكر في كثير من الميزات التي يتمتع بها الأغنياء دون الفقراء، وإذا ما عممنا التفسير فإن مفهوم الأغنياء يشير إلى أي شكل من أشكال التملك، والذي يمثل أفضلية بالنسبة لهم.. أما الفقراء فينعدم لديهم ذلك.. فإذا كان الأمر كذلك فسوف يُفسَّر المفهوم الشائع لتلك المقولة على أنه وصف صحيح للاتجاه التوزيعي لا للدخل والثروة الشخصية فحسب، بل لثروات الشركات أيضاً.

وتجدر الملاحظة هنا أن معظم الاقتصاديين من الناحية التقليدية لم يكن لديهم الكثير ليقولوه بصورة مباشرة عن عمليات نشوء الثروة والدخل.. والسبب في ذلك يعود إلى أن معظم النظريات الاقتصادية مختصة أساساً بالتوازن الساكن، وأن القسم الأكبر من البحوث الاقتصادية في المجال ذي الصلة مكرس لتحليل التقسيم الوظيفي للناتج الاجتماعي ما بين عوامل الإنتاج والتفسيرات الإحصائية لأنماط توزيع الدخل.. بيد أن معظم ما يقوله الاقتصاديون لا يبدو متعارضاً مع مقولة الأغنياء والفقراء سالفة الذكر، ذلك لأن النظرية الاقتصادية البرجوازية تنظر إلى توزيع الدخل كناتج ثانوي للأنشطة الاقتصادية الخاصة بتحويل موارد معينة إلى سلع من خلال الوسائل المعروفة للإنتاج والتجارة.. وفي ظل هذا الموقف لا يمكن للمرء أن يتصور حالة يكون الفرد ذو الموارد الأقل قادراً على تقديم أداء أفضل من الفرد ذي الموارد الأكبر.. قد يحاول الفقير تحسين نصيبه عن طريق امتلاك المهارات أو التعليم، ولكن الغني يستطيع الأداء بطريقة أفضل لأنه ذو قدرة أفضل على التمويل ولا يستطيع إلا الحظ أن يحدث تغييراً على موضع الفرد في سلم الدخل.

على أن الآونة الأخيرة شهدت مناقشات الغرض منها توفير تأييد أكثر صراحة لمقولة ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، والبرهنة على أنه يوجد في الاقتصاد الحديث اتجاه واضح لتزايد غنى الأغنياء وفقر الفقراء.. ويجري تصوير عملية توزيع الدخل والثروة في المجتمع الحديث على أنها تمثل (المجتمع الذي ينال فيه الرابح كل شيء)، وعلاوة على ذلك فإن هناك نزوعاً واسع الانتشار إلى حصول (هؤلاء الذين هم قرب القمة على نصيب غير وافر)، بينما يخفق هؤلاء الذين هم أقل مقدرة بدرجة طفيفة بطريقة تبعث على الرثاء.. وهذا الأمر لا يبرز فقط في الفن والترفيه (الممثلون والمطربون والرياضيون.. وغيرهم) ولكن أيضاً في القانون والعمل التجاري والتكنولوجيا والاستثمار والمعاهد العلمية، وحتى في وظائف ذوي الياقات البيضاء ذات المستوى الأقل.. وباختصار إن المصدر الحقيقي وراء تزايد عدم المساواة يكمن في (انتشار الأسواق التي يستحوذ فيها الرابح على كل شيء).

وهناك فريق اقتصادي يقول (إن المجتمع الذي ينال فيه الرابح كل شيء)، ولا يعني مجرد تزايد عدم المساواة، بل يعني أيضاً عدم الكفاءة.. ويرى هذا الفريق أنه مادام يتنافس المزيد والمزيد من الناس للحصول على الميزات المرغوبة، فإن ذلك سيؤدي إلى الإفراد في الاستثمار، ومن ثم يصبح السوق مفتقراً إلى المساواة وإلى الكفاءة، ويقترح هذا الفريق إصلاحات معينة مثل فرض الضرائب على الأغنياء وتنظيم السوق لتقليل (المنافسة المفرطة) من أجل توزيع أكثر عدالة وكفاءة أكبر.

هناك رأي تقليدي بين الاقتصاديين فيما يتعلق بتزايد غنى الأغنياء وفقر الفقراء تقوم على المتبارين:

1- معدل المدخرات التفاضلية عبر فئات الدخل المختلفة.

2- قانون (الفائض المركب)، ومحتواه أن الأغنياء يملكون معدل مدخرات أعلى مما لدى الفقراء، أما الأكثر فقراً فينعدم معدل مدخراتهم فعلياً، وعليه فإن من المحتم أن تزداد ثروة الأغنياء بمعدل أعلى، حتى ولو حصل كل واحد على معدل العائد نفسه على مدخراته، وبناء على ذلك سوف تتركز الثروة بدرجة متزايدة في أيدي الأغنياء وتتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

توجد آراء أخرى مؤيدة لمقولة تزايد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، تؤكد أن عملية تراكم المزايا في العلم بأنها (تأثير متّى) نسبة إلى المقطع التالي من العهد الجديد: (فإن من له سيعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه) (*).. والمقصود بتأثير (متّى) هنا تعميم النتائج البحثية لسوسيولوجيا العلم، حيث: (يلقى العلماء المبرزون ثقة وتصديقاً أكبر بصورة غير متكافئة فيما يتعلق بإسهاماتهم في العالم، بينما يميل العلماء غير المعروفين للحصول على ثقة وتصديق أقل بصورة غير متكافئة، بخصوص إسهاماتهم المماثلة)، سواء في حالة التعاون أو الاكتشافات المتعددة المستقلة.. ويتم التعبير من هذا الفريق على أنه يكون لدى الشركات الكبيرة في محيط الصناعات ميزات في الابتكار التقني، وعليه يكون هناك تركيز متزايد للثروة، ويمكن تلخيص ذلك على النحول التالي: مع تطور الاقتصاد عبر زيادة التخصص، يصبح البحث العلمي اللازم للابتكارات الصناعية الحديثة متخصصاً كذلك، وتتمكن الشركات الكبرى، وخاصة تلك التي أحرزت مراكز تتسم بالسيطرة في صناعاتها المتخصصة وتتمتع بأرباح تفوق المتوسط، تتمكن من استثمار المزيد في البحث العلمي، وبالتالي تحقق ابتكارات أفضل، وباستخدامها لثرواتها تستطيع الشركات الكبرى أن تقضي في المهد على ما قد تطرحه الشركات الصغرى أو متوسطة الحجم من تحديات.. وفي النهاية ستتركز الثروة في عدد صغير من الشركات الضخمة، وعليه فإن مفهوم ازدياد تركز الصناعات ما هو إلا صورة أخرى عن مقولة تزايد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.

ويبقى لماركس دوره الريادي في تحليل مصدر تكوّن الثروات، وتحديده لهذا المصدر وهو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.. أما فيما يتعلق بالآراء الرافضة لمقولة ازدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، فهو بحث آخر من الضروري التطرق إليه ودراسته وتحليله من منطلق نقدي، وهذا موضوع آخر يمكن التطرق إليه في مقالة أخرى.

(*) إنجيل الإصحاح 13 آية ،12 و(متّى) هو أحد حواريي السيد المسيح، والمقصودون بالشق الأول من الآية حواريو السيد المسيح، أما الشق الثاني فيعني الكهنة.

 

العدد 1140 - 22/01/2025