الدور الصهيوني في فبركة ربيع الدم
شعوب غير مسيسة سواء في مركز الحضارة المعاصرة أم على أطرافها، شعوب شلّت إمكانياتها وديناميتها ووضعت في غفلة منها تحت رحمة قوى رجعية دينية معادية للحداثة ينضح جوهرها بالاستبداد والفاشية وإقصاء الآخر حلّت في التركيبات الاجتماعية محل قوى التغيير الحقيقية التي غُيّبت وغُيّبت معها الثقافة التقدمية، وبالتالي الوعي الطبقي والثوري، شعوب حرمت من طاقتها التنويرية هي شعوب عاجزة في ظروف كهذه عن إنجاز ثورة اجتماعية.
هذه الحقيقة الموضوعية تعرفها كل النخب المثقفة، وبضمنها تلك التي مارست استغلال ذلك التغييب من جهة، واحتقان الطبقات الشعبية المهمشة من جهة ثانية، لتحرك الناس بوهم ثوري مصطنع مصيره حكماً الفشل الذريع، وهو في غير شرطيه المكاني والزماني، ومآله حكماً مصلحة المشروع الخارجي المتناقض مع مصالح الطبقات الثائرة وكذلك مع المصالح الوطنية، وهذه الحقيقة المغيبة إعلامياً على النطاق العالمي هي التي تقودني للقول بثقة إن ما جرى منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه في 17/1/2010 في تونس، وانتشر اللهيب شرقاً باتجاه سورية لا يمتّ إلى الثورات بصلة ولا هو ربيع عربي. والأساس في هذه الحالة هو الدور الصهيوني في تفجير الأزمات الداخلية لدول المنطقة. ومن الواجب والضرورة الملحة إظهار الحقائق لشعبنا ومواجهة تسونامي التضليل الإعلامي، علماً بأنني لا أغفل ولا أنفي العوامل الذاتية لتلك الأزمات.
يؤكد ويدعم هذا التوجه فيضُ المعلومات والوثائق والتسريبات والاعترافات والتصريحات والفضائح التي تراكمت منذ خمس سنوات دامية حتى الآن، جعلت من الحديث عن (ثورة) عفوية سلمية في سورية تحولت إلى مسلحة، حديثاً منتهي الصلاحية منذ زمن طويل، فلم يكن ما هو عفوي حقيقة غير تجاوب المهمشين المنفعلين مع تضليل مستغليهم، فنقاط واشنطن، تل أبيب، باريس بشكل رئيسي هي زوايا مثلث برمودا العولمة المتوحشة، بجوهرها الخارج عن الشرعية والأعراف الدولية والمنتهك لأبسط حقوق الإنسان والدول، في تناقض صارخ مع الواجهة الشعاراتية المعلنة، ومن غير المنطقي تجاهل تأثيره الجهنمي في الحدث السوري، وهو على الحدود تماماً.
والحقيقة أن الرابط بين نقاط المثلث وأحداث المنطقة واضح، فليس من باب المصادفة أن يكون البروفيسور المستشرق الصهيوني برنارد لويس، البريطاني الأمريكي المتخصص بالتاريخ الإسلامي، واضع مشروع تقسيم المنطقة، والمستشار الرئاسي الفرنسي الصهيوني برنارد هنري ليفي، المنفذ الميداني للمشروع، وأندريه غليكسمان المفكر الصهيوني الفرنسي منظّراً ومصمماً للمجازر المعاصرة تحت ذرائع إنسانية، وليست مصادفة أن يكون أستاذ العلوم السياسية الصهيوني الأمريكي جين شارب، واضع تعاليم إسقاط الدول والحكومات والأنظمة وبرامج تدريب الشباب على القيام بذلك، والملياردير الصهيوني جورج سوروس، أقرب الشخصيات إلى عائلة روثتشيلد مموّل تلك البرامج ومشاريع تنفيذها، وهو بالمناسبة الممول الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين السورية، وليست تلك الأسماء حقيقة سوى بعض أهم أسماء الجوقة الصهيونية المحركة لمجريات التدمير الممنهج للدول، وبضمنها الدولة السورية بأيدي فئة من مواطنيها، لذلك فإن التغاضي عما تخططه مراكز البحث والمؤسسات التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية لإخضاع دول العالم والتحكم بمصائرها وتدميرها، والأسماء الواردة مستحوذة على مناصب قيادية في جميع تلك المؤسسات المرتبطة بعضها ببعض بشكل أو بآخر، يصب في خانة إنجاح خرق تلك الخطط والمشاريع لمجتمعات فشلت في تحصين ذاتها معرفياً وأفلست ممانعتها.
كما يؤكد ويدعم هذا التوجه أيضاً التحليلاتُ التي نفت صفة الثورة عما حدث، فعلى سبيل المثال اعتبر المؤرخ التونسي الهادي التيمومي في مجلة (الطريق) اللبنانية ما حصل في تونس انتفاضة لم تتحول إلى ثورة، لأن السلطة السياسية لم تنتقل إلى طبقة اجتماعية، وأنهى مقالته بتساؤل مقلق عما إذا كان الأمر سينتهي مع خيارين أحلاهما مرّ: إما نظام استبدادي ملائكي، أو إسلامي مناهض لقيم الحداثة؟ أما المفكر الماركسي المصري سمير أمين فقد وصف ما جرى في مصر بأنه أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة، فالحركة لم يكن لديها أهداف تتجاوز الإطاحة بمبارك، وقد طرح الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة في مقالته سؤالاً جوهرياً قائلاً: إن مطالبة (الثوار) بتدخل الناتو لكي يكون القوة الحاسمة (للثورة).. هنا معاندة لتاريخ الثورات كله فالثورات التي انتصرت استعانة بالخارج هل يمكن لها أن تصوغ مساراً مستقلاً؟
وأخيراً ما يدعم ويؤكد هذا التوجه هو انبطاحيةُ القيادات الإخوانية المرتبطة بالمشروع الصهيوأمريكي، فأول ما فعله راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بعد وصوله إلى السلطة في تونس، هو تلبية دعوة الأيباك لزيارتها في أمريكا لتقديم أوراق اعتماده لهذه الدوائر في مقرّها (راجع هادي دانيال -كتاب مؤامرة الربيع العربي، القضية الفلسطينية ص.51.).
وكذلك كان أول ما فعله شريكه الأيديولوجي في مصر محمد مرسي تقديم الطاعة لحكام تل أبيب في رسالة ذليلة للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، في الوقت نفسه الذي قطع علاقات بلاده بسورية تنفيذاً لبيان النفير للجهاد في سورية الذي وقّعه على مقربة من السفارة الإسرائيلية مئة وسبعة من المتاجرين بالدين الإسلامي، حسب وصف هادي دانيال (راجع كتابه: سورية التي غيرت وجه العالم- ص106) ولم تعد خافية ولا سرية علاقات أبرز المعارضين السوريين بشخصيات ومؤسسات أمنية خارجية، وعلى رأسها صهيونية وإسرائيلية، كما لم يعد خافياً ولا سرياً الدعم الإسرائيلي المباشر المتعدد الجوانب للمجموعات الإرهابية المسلحة في سورية، فعن أية ثورة يتحدث البعض بكل تلك الثقة؟ عن أية حرية وكرامة؟ عن أي ربيع ومدننا أنقاض والدم للركب، كما يقال؟