سياسات دمشق ربما تحدد طبيعة تفكك المشرق العربي

  اشترك الحليفان المنتصران في الحرب العالمية الأولى بريطانيا وفرنسا، على تقسيم منطقة سورية الكبرى والعراق الواقعتين ضمن أراضي الإمبراطورية العثمانية. ووقعت اتفاقية التقسيم في 24 نيسان 1916. بعد نحو شهر تقريباً وفي أيار من العام نفسه، جرى إشراك روسيا القيصرية في خطة التقسيم هذه، وجرى تبادل المذكرات بين الأطراف الثلاثة في العاصمة الروسية آنذاك سانت بطرسبورغ، حيث مثّل الطرفان الأوربيان الغربيان سفيراهما في روسيا، ومثّل الطرف القيصري وزير الخارجية زازانوف. نجح الروس بقبول المطلب الروسي بقوننة دولية لحريّة العبور من مضيقي البوسفور والدردنيل، كما حصلت على أراض واقعة في محيط البحر الأسود.

تعرضت اتفاقية سايكس بيكو مرات عدة للتعديل: تعديلات في مؤتمر الصلح في باريس الذي عقد في 18 كانون الثاني عام ،1919 ثم في مؤتمر سان ريمون في 25 نيسان عام ،1920 الذي جرى فيه فعلياً تقسيم سورية الكبرى إلى الدول الحالية. ولا ننسى في هذا السياق موضوع مذكرة وعد بلفور عام 1917 وصدور صك الانتداب عن عصبة الأمم في 24 تموز ،1922 وحينذاك اعتبر الصهاينة هذا الصك بمثابة مصادقة دولية على وعد بلفور، ذلك أن الوعد كان بريطانياً أما الصك فكان دولياُ.

مستغلين المشاعر القومية، رأى الإنكليز أن تأجيج ثورة عربية في المشرق العربي تُشغل السلطنة العثمانية عن الحرب ضد الإنكليز في مصر، وتُبعد القوات العثمانية المعادية لهم عن المناطق المتاخمة لقناة السويس وطريق التجارة والمواد الخام القادم من الهند وجنوب شرق أسيا. هكذا قامت (الثورة) العربية الكبرى في 10 حزيران ،1916 بعد بضعة أسابيع فقط من اتفاق التقسيم؟. مهما يكن من أمر، فإن تقسيم الدولة العثمانية كان سَيُنجز، بغض النظر عن قيام (الثورة) العربية أم لا. إذ إن الإجهاز على هذه الإمبراطورية المهترئة كان يُحضّر من قبل الغرب منذ أزمة 1860 في جبل لبنان ودمشق، ودخولهما الصريح في إدارة هذه الأزمة وحلّها عبر إرسال فرنسا نحو 7500 جندي إلى سورية بذريعة (حماية المسيحية في الشرق).

أكثر من ذلك كانت الدولة العثمانية قد وصلت على أعتاب القرن العشرين إلى دولة متفسخة سياسياً، وقد نخر الفساد جميع مؤسساتها. وإذا وضعنا جانباً الخرافات (الثورية) التي أشاعها الإعلام السوري (الموجه) وحقنتها الحكومات السورية المتعاقبة في الكتب التعليمية، لرأينا أن ما سمّيت (الثورة العربية الكبرى) قد فشلت فشلاً ذريعاً لغياب أي فكر سياسي واقعي يقدم رؤية لمرحلة ما بعد انحسار الاحتلال العثماني، وكيف يمكن مواجهة الاستعمار الجديد القادم من الغرب.

وإذا أنصفنا التاريخ لوجدنا أن الفرنسيين والأتراك لم يكونا أقل أذى من الإنكليز أصحاب وعد بلفور، ويذكر زكي الأرسوزي في كتاباته أن (فرنسا وتركيا اتفقتا على (عروبة) هذه المنطقة، الأولى عبر تجزئتها والثانية عبر اقتطاع أجزاء من أراضيها، فنجح الأول باقتطاع لبنان ونجح الثاني بسلخ اللواء). وفي مشهد يتكرر مرة أخرى وقف الفرنسيون والأتراك ومازالوا حتى هذه اللحظة في الحرب ضد سورية؛ الأول يريد انحلال الكيان السوري، والثاني يريد مدينة حلب-كحد أدنى- جزءاً جديداً من جغرافيته. ومع ذلك لم يزل حكام هذه المنطقة حتى عام 2011 يهللون للعلاقات الودية والأخوية والتاريخية والاستراتيجية والعميقة وما إلى ذلك، مع حكومات تلك الدولتين!.

لقد استغلّ الاستعمار الغربي الهبّة التحررية، وصنعوا (الثورة) العربية، ونجحوا في تحييد السلطنة أول الأمر، ثم في إرباكها وإخراجها من حلبة الصراع الدولي والإقليمي نهائياً بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وانقسمت سورية الكبرى، غافلة عن قيام دولة كردية، وتحولت الدولة (العربية) الموعودة التي تغطي كامل المشرق العربي حسب وعد بريطانيا للشريف حسين وابنه فيصل كذبة (تكتيكية)، فيما دفع الآشوريون والأرمن ثمناً باهظاً. والآن في سردية تاريخية يكاد يتكرر المشهد نفسه في الجغرافيا نفسها عبر سيناريو (الربيع العربي)، أو ربيع المغفلين – كما أطلق عليه الكاتب المغربي الطيب بيتي. وإذا كانت الأنظمة الحاكمة في بلاد المشرق العربي قد اخترقت بديناميات صراع دولية إنكليزية فرنسية، فإنها بقيت كذلك واستُبدِلت حالياً بديناميات صراع روسية أمريكية.

المستقبل المتوقع الآن، أنه في حال عدم قدرة دمشق على استيعاب التعددية القومية في برامجها الوطنية الثقافية والاجتماعية والسياسية، سينتهي المشرق العربي وليس سورية فقط، في نهاية المطاف، إلى التفكك والتشظي. فاتفاقية سايكس بيكو والتعديلات التي لحقتها جاءت على انقاض انهيار نظام دولي وإقليمي، والآن أمام أحداث جيوسياسية من قبيل ضم القرم لروسيا، واتفاق إيران النووي مع الولايات المتحدة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وغيرها من الأحداث، تشير بقوة إلى أن العالم مقبل على مرحلة جديدة كلياً، تقدم فيها سورية نموذج الصراع الأكثف لهذا الانتقال. ونحن على يقين من أن الإرادة الداخلية للمجتمع السوري وطبيعة إدارة النخب السياسية في سورية للأزمة، ستحددان إلى حد بعيد شكل الجغرافيا السورية لما بعد هذا الانتقال.

العدد 1136 - 18/12/2024