العولمة تحت المحاكمة
في أغلب الأحيان لا تمرُّ كلمة العولمة في أدبياتنا، إلا وتوصف بالمتوحشة، أو بالغزو الثقافي المتوحش، وذلك لأن أغلب الباحثين بمفهوم العولمة في مجتمعاتنا العربية يتهمونها أو يرونَ فيها إضعافاً للانتماء الوطني، لأنها تتيح المجال للمقارنة مع الشعوب الأخرى، وتجعل المواطن العربي يتطلع إلى إنجازات الآخر في كل المجالات، ليسخر من ضعف إنجازاته الوطنية، ويتهمونها أيضاً بأنها إدخال لمفاهيم جديدة تخالف مفاهيمنا الدينية والاجتماعية التي تضبط أخلاقيات المجتمع وخاصة الجيل الشَّاب منهُ، والبعض الآخر يعتبرها نوعاً متطوراً من السيطرة الرأسمالية الإمبريالية لأن الهيمنة فيها لرأس المال الأقوى.
تلك هي بعض الاتهامات التي تجعل من يبحث بالعولمة في عالمنا العربي يقول بأنها وحشٌ يغزو العقول العربية.
فهل العولمة هي فعلاً متوحشة؟ وهل هي غزو ثقافي لمسح الموروثات والقيم والمفاهيم في مجتمعنا؟ وهل هي قضاء على الهوية المحلية والخصوصية الثقافية وسعيٌ ليحلّ محلّها مفاهيم وهويات المجتمعات الأخرى، التي ستشكل خطراً على انتماءاتنا الوطنية والقومية؟
من أهم تعريفات العولمة بأنها عملية التبادل الثقافي والعلمي والاقتصادي وتبادل المعلومات والخبرات في كل المجالات، بين الشعوب، وكان تطور وسائل الاتصال الحديثة سبباً رئيسياً لانتشار هذا التبادل عالمياً، وهنا بالتأكيد ستظهر الفوارق بين المجتمعات والدول من حيث المشاركة في هذا التبادل، ومن الطبيعي أن تظهر هذه الفوارق التي لم تصنعها العولمة، وإنما هي موجودة أصلاً، ولكن العولمة أظهرتها فقط، وعلينا بدل نقد العولمة أن نعترف بوجود الفوارق ونكتسب من الخبرات المتبادلة الخبرة الكافية لإزالتها.
ومن تعريفات العولمة أيضاً أنها ظاهرة تسعى إلى تعزيز التكامل العالمي في المجالات الماليّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة وغيرها، من خلال تعزيز انتقال الخدمات، والسلع، ورؤوس الأموال، التي تدعم القطاع الاقتصادي في أنحاء العالم، من خلال المنشآت الكبرى التي تنتج الخدمات والسلع ضمن دول عديدة ومتنوعة، وتخلق الحركات التجاريّة التي تساهم في الحدّ من العزلة الاقتصاديّة، وتعمل على زيادة تنوّع الخدمات والسلع التي يجري تبادلها بين الدول.
وهنا يمكن توجيه السؤال إلى الدول التي تخاف من العولمة وتراها غزواً: لماذا لا تكون لديها شركات تنافس الشركات العالمية في هذا التبادل، وهي قادرة على ذلك اقتصادياً لو أدارت مواردها بالاتجاه الصحيح، ما دامت العولمة أمراً واقعاً، فلنتعامل معها بشكل إيجابي يفيد مجتمعاتنا في النمو والتطور بدل أن نختبئ خلف العجز وننتقد هذه العولمة، التي تُعدُّ من الظواهر التي ارتبطت بتأثيرات اقتصاديّة، وسياسيّة قد تكون ذات مؤثرات إيجابيّة أو سلبيّة، وربما يمكننا أن نعمل بأن تطغى إيجابياتها على سلبياتها وأن نساهم في جعلها سبباً لدعم وتقوية قدراتنا عندما نستطيع أنّ نتكيف معها.
وهل من الصعب أو المستحيل أن يكون اقتصادنا وصناعاتنا وتجارتنا ضمن هذه الحركات العالمية للتبادل، ومضاهاة العالم في عملية تبادل الإنتاج والسلع، والابتكار والإبداع التكنولوجي، والتحديث المستمرّ، بدل أن تكون أموال اقتصادنا العربي مهدورة على وسائل التسلية واللهو وتمويل الجماعات المسلحة وشراء الأسلحة التي هي ليست مخصصة للعدو الحقيقي طبعاً.
وإن اتهمنا العولمة بالهيمنة والسيطرة الإمبريالية للدول الغربية المنتجة، فلماذا نحن نسرع إلى جلب المواد الطبية ووسائل العلاج ووسائل الاتصالات والمعدات الصناعية التكنولوجية المتطورة من هذه الدول، وفي الوقت نفسه نتهمها بالسيطرة والهيمنة، وبدل انتقادها أما كان من المفروض الاستغناء عن هيمنتها بإيجاد البدائل المحلية لما نحتاجه منها بإدارتنا نحن وبإمكاناتنا العربية.
يخاف العرب من العولمة بشكلها الثقافي، ولكن بدلاً من الاهتمام بأمور مهمة لمواجهتها أو الاندماج بها لمضاهاة العالم بتطوير وسائل الاتصال والإعلام وخلق خصوصية ثقافية ترتقي إلى مستوى المنافسة العالمية، فقد انصبَّ اهتمامهم فقط بالإشارة إليها على إنها خطر على القيم الدينية والروحية والتراثية، وبقي اهتمامهم بالعولمة منحصراً على التحذير من ذلك، دون تنمية ثقافتنا لمواجهتها.
ومن ناحية العولمة السياسيّة التي تقوم في أساسها على الحريّة في مختلف صورها، كحريّة التفكير، وحريّة التعبير، وحريّة الاختيار، وحريّة الاعتقاد، وحريّة الانضمام إلى المنظمات السياسيّة، وحريّة تشكيل الأحزاب، والاهتمام باحترام حقوق الإنسان وحريّاته، هل هذه الأمور هي خطرٌ على شعوبنا أم هذا ما نحتاجه فعلاً؟
وبالنتيجة فإنَّ العولمة هي حريّة انتقال المعلومات، وتدفق رؤوس الأموال، والأفكار المختلفة، والتكنولوجيا، والمنتجات والسلع، وهي حرية انتقال البشر أيضاً بين المجتمعات الإنسانيّة المختلفة، حيث يؤدي ذلك إلى جعل العالم أشبه بقرية صغيرة.
وكان من الأجدى بدل انتقادها السعي والعمل على إيجاد البدائل المحلية لمواجهة هيمنتها في مجتمعاتنا، فلن يضطر شبابنا للتطلع إلى مغريات المجتمعات الأخرى بالتأكيد، وقد أتيح للعرب امتلاك الثروات الكافية لذلك، فلماذا لم توجَّه هذه الثروات نحو التطور والازدهار في المجالات كافة، وإيجاد الوسائل والمنتجات التكنولوجية العربية إن صّحَتْ التسمية، لكي نخلق هوية عربية خاصة، تنافس هيمنة العولمة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم لتصبح العولمة أمركة للعالم.