مواجهة الفساد ما بين التنظير والواقعية

 كانت رؤيتنا للفساد واحدة، ولكن إمكانية اجتثاثه تعرضت لاختلاف كبيرة بين ندوتين لجمعية العلوم الاقتصادية، الأولى في المركز الثقافي العربي بالمزة بعنوان الفساد (عام 2009)، والثانية كانت منذ أقل من شهر (18 /7/ 2017)، والفرق كان بين الاجتثاث، والإحاطة والمواجهة، وهوما فُهم خطأ من مبدعتنا الراقية من الحضور بأنه تهاون، وعدنا إلى نغمة إن توفرت النية والإرادة سيُجتث، وهو ما لم يكن ولن يكون، ولم تكن الرؤية إلا حلاً منطقياً وواقعياً.

فالفساد كلمة كبيرة المعنى والمفعول، فهي محبطة للهمة ومثبطة للضمير والعقول، والفساد سرطان فتّاك لدحض الانعكاسات القوية للبناء والمفيدة للتنمية بكل أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكل ما يخص بنية المجتمع وحقوق الإنسان، فلا يمكن أن يكون هناك مرض يرهق المجتمع ببنيانه الفوقي والتحتي أكثر من آفة الفساد، وسلبية انعكاساته تتعلق بمدى انتشار هذه الظاهرة أفقياً وشاقولياً والفترة الزمنية لنموها وتغلغلها.

ومن المؤكد أن النظرة إلى الفساد بوصفه سرطاناً فتاكاً قاتلاً لكل منجزات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ومعرقل لاستمرار التنمية والنمو ومهشم للبنى الاجتماعية بما يؤدي لإضعاف مقاومة المجتمع ويجعله معرضاً لكل أنواع الأمراض الداخلية والخارجية، وأن الفساد من مداخل الغزو الدموي القاتل المدمر لسورية، واستمرار هذا الغزو وتضاعفه وتنوعه أدى إلى تعقيدها وصعوبة الحلول، فلم يكن دواعش الداخل وإرهابيوه أقل تأثيراً من دواعش الخارج وإرهابيوه، بل العكس هو الصحيح فقد كان الرهان على الإسقاط الداخلي الاقتصادي والاجتماعي بعدما عجزت أحدث الأسلحة ومئات آلاف المرتزقة التي بينت حقيقة ما يحاك لسورية وجذرها التاريخي الحضاري، وقد جرى استثمار مطالب اجتماعية واقتصادية محقة اعترفت السلطة بها، وركوب موجتها وتوجيهها بالاتجاه المدمر. وكلنا يعلم أن ما نُظّر به قبل الأزمة عن نهج اقتصادي متواتر النمو ويحقق منجزات تنموية مميزة، وعن علاقات اقتصادية غير محسوبة الخلفية، كان يرافقه فساد مغضوض الطرف عنه، وتقويض لدور المؤسسات المتابعة والمحاسبة والمراقبة لسلوك هؤلاء المبرمجين لقتلنا. وقد قدّر الفساد بحوالي 1000 مليار ليرة قبل الأزمة، وبحوالي 30 % من الناتج المحلي الإجمالي. هذا النهج استمر خلال الأزمة وتابعه مَن كانوا أشد المعارضين، وعندما وصلوا إلى المنصب مرّروا ما عجز عن تمريره أدوات المشروع، وهذا من اكبر أنواع الفساد المدمر القاتل.

لا أحد ينكر أن الفساد ظاهرة عالمية ومعولمة، وأنه كان إحدى الأدوات الرئيسية لتهيئة البلدان لقبول الاملاءات الأمريكية، وذلك عبر سحق الهويات الوطنية وتمرير عادات وتقاليد وسلوكيات أبعد ما تكون عن السيرورة التاريخية، وبما يحدث صدمات داخلية هدامة، وبذلك كان الفساد ملازماً وممهداً للغزو الثقافي الهادف لسلب المجتمعات من التحصينات القيمية والأخلاقية، من أجل مرور الاستلاب الاقتصادي مرور الكرام وتفريغ أي مقاومات مجتمعية لمشروعها اللا حضاري واللا إنساني. ولم يخرج الفساد عن منظومة العولمة فأصبح معولماً، وأصبح هناك منظمات حامية وداعمة له، وكذلك أصبح مجال الكثير من أنواع الفساد ومداه عالمياً، كالدعارة والمخدرات والأسلحة وشراء الأعضاء، فضلاً عن مافيات محلية ترتبط بالمافيات الدولية وخاصة ما يتبع للشركات متعدية الجنسيات وأساليبها في الحصول على العقود والمواد وبيع المنتجات. أجمل شيء في الفساد الذي لا يحوي سوى القباحة أنه منظومة متعدية للقومية وللجنسية وللطائفية وللمذهبية، فهو يتطلب إيديولوجيات تقاطع وتجمع بين كل هؤلاء من انحطاط قيمي وأخلاقي وقابلية لفعل أي شيء مقابل الحصول على منافع بطرق غير نظامية.

إذاً، تهشيم البنى المجتمعية وتدمير البنى التحتية وتشويه البنى الفوقية هي أهم الأدوات لتنفيذ السياسات التي تلبي مصالح الغرب وأدواته، وكان أهم مدخل للوصول إلى ذلك هو تعميم سياسات الفساد والإفساد وما ينجم عنها من سلبيات قاتلة للمجتمع، وإن اختلفت انعكاساته ما بين الفساد الكبير والفساد الصغير.

«يتبع»

 

العدد 1140 - 22/01/2025