المشهد التركي.. ما بعد الانقلاب
يزداد المشهد في الشرق الأوسط تعقيداً وكأنه لا يقبل أي محاولة للتفكيك أو الفهم، يزداد المشهد تأزّماً وكأنه ما كان في الأيام السابقة يعبر عن كل تلك الفوضى التي تملأ صفحات الجرائد والكتب عن أقسى المآسي الإنسانية في عصرنا الحديث. لا يقبل المشهد بأي حال أن يمرّ يوم من دون أن يطل علينا بالمزيد من مفاجآته المتوقعة وغير المتوقعة، رغم كل تحليلات المحللين والمتابعين وتوقعاتهم واستنباطاتهم، يصدمك المشهد وكأنك لم تكن في صدمة أصلاً.
ثلاث ساعات تختزل أحداث خمسة أعوام، تعبّر فيها عن كمّ الفوضى التي يعيشها العالم، ثلاث ساعات تعيد ترتيب المشهد في الشرق الأوسط ليخلق توازنات وحسابات جديدة تفتح آفاقاً وتغلق آفاقاً أخرى. الانقلاب اللامفهوم في علم السياسة واللامعقول في تاريخ الانقلابات واللامدان في بداياته واللامحسوم حتى الآن دفع بالجميع لأن يقرؤوا ما بين تفاصيله عن الشيطان الكامن في الدافع والمبرر لأن تقوم المؤسسة العسكرية المنهكة والمختنقة من قيود البيروقراطية السلطوية في تركيا بهذا الانقلاب الهزلي.
يزداد المشهد ضبابية في كل خطوة نخطوها لفهمه وكأنه عصيّ على الفهم رافض للتحليل، يزداد المشهد ضبابية كلما أمسكنا بخيط يقودنا إلى عقدة المشهد لنتعرف على الأخيار من الأشرار ويتحول البطل من دور المستضعف إلى دور المنتقم، مازالت الأحداث لم تصل بنا إلى الذروة، فكل ما يحدث الآن هو تحضيرات المشهد لكي تطل علينا من بعد ذلك المأساة في أبهى صورها وأقواها. مازالت المأساة تختمر والكل ينتظر. في المشهد التركي ما بعد الانقلاب نستطيع أن نتلمس من بين تفاصيله بضع نقاط قد تساعدنا في الوصول إلى فهم جزئي للواقع المأزوم.
الخاسرون
في كل الأحوال تظل السلطة التركية الممثلة رسمياً في حزب العدالة والتنمية وقيادياً في أردوغان هي الخاسر الأول في ذلك الانقلاب الذي لم تظهر كل تفاصيله بعد، فما بين المحللين الذين رأوا أن الانقلاب كان حقيقياً وأن المؤسسة العسكرية وصلت إلى طريق مسدود في التوافق مع سياسات أردوغان وتياره السياسي، والمحللين الذين يرون أن الانقلاب جاء بتعليمات وتخطيط من أردوغان نفسه لكي يطلق ديكتاتوريته من أجل إعادة تشكيل البناء السلطوي والبيروقراطي والمؤسسي للدولة التركية بشكل يخدم مصالحه، تظل الإشكالية قائمة على أن أردوغان لم يكن في احتياج حقيقي لكي يطلق يده إلى أن يظهر للعالم نفسه وسلطته بأنها عرضة للاهتزاز والتأزم.
فأردوغان لا يحتاج إلى إعلان ديكتاتوريته من خلال انقلاب حتى ولو كان هزلياً كالذي حدث، فهو قد حقق ذلك خلال الخمس سنوات الماضية ولم تعارضه أي من القوى الدولية، بل تغاضت عن الكثير من قراراته وقمعه للمعارضة وحبسه للصحفيين، أردوغان ديكتاتور بإعلان رسمي وموافقة معلنة من الحلفاء في الغرب والأصدقاء في الولايات المتحدة الأمريكية، الانقلاب كان في المجمل خسارة فعلية لأردوغان شاء أو لم يشأ، فجزء كبير من الخسارة هو اصطدامه بالمؤسسة العسكرية وظهورها في وضعية المناوئ وغير المتوافق مع سياسته الداخلية والخارجية، ولم تكن تلك الخسارة مطروحة على طاولة التحليلات رغم وجودها منذ سنوات، بدءاً من محاولاته المستميتة للسيطرة عليها منذ أن ألقى بقيادتها في السجن أو عزلهم وطردهم من وظائفهم وانتهاءً بدفعها لخوض معركة غير مدروسة في العراق وفي الشرق التركي مع الأكراد متناسياً أن نسبة كبيرة من المجندين في الجيش التركي هم من تلك المناطق الريفية البعيدة، وبالتالي فإن اعادة ترتيب البيت العسكري سيجد صداه في القيادات العليا التي يستطيع أن يختارها، لكنه بالعكس من ذلك فقد جزءاً من سيطرته على القيادات الصغرى والوسطى التي أصبحت في حالة كراهية له، والدليل على ذلك التمردات الجزئية والهروب المتكرر للضباط الصغار في القوات البحرية والجوية، مما يؤكد أن القضاء على الخلاف بينه وبين المؤسسة العسكرية طويل الأمد وسيستمر حتى يستطيع طرف من الطرفين إرغام الطرف الأخر على الخضوع له.
خسر أردوغان حتى ولو قضى على الانقلاب، لأنه في كل الحالات فتح الباب لدخول الفوضى التي ترتكز مكوناتها على الاستقطاب، لم يجد أردوغان شخصاً يعاديه فقرر أن يخلق وهماً يحاربه، لم يخطط للانقلاب لكنه ساعد في تكوينه وولادته بقراراته التي قسمت الدولة التركية ما بين مؤسسات متخمة بأعضاء حزبه، وجمهور محبط لا يملك سوى استجداء المؤسسة العسكرية من أجل الانقلاب والإطاحة به، ونستطيع أن نقول بكل وضوح إن عشرات الآلاف الذين نزلوا في ميادين استانبول لا يعبرون عن الجمهور التركي العريض الذي تبلغ قوته البشرية عشرين مليوناً فقط يعبرون عن جمهور العملية السياسية الذين اختاروا البديل الأقل تكلفة للوضع الاقتصادي الذي يمكن أن يسوء في حال وصول المؤسسة العسكرية إلى السلطة المدنية.
جمهور النخبة السياسية هو الجمهور المسيطر على اتجاهات الدولة التركية، فهو جمهور المطالبة بالحرب على سورية، وهو الجمهور الذي أتى بأردوغان ونصبه ديكتاتوراً، وهو الجمهور الذي هلّل لسقوط الطائرة الروسية، وهو في النهاية الجمهور الذي ازداد دخله من بيع النفط والأثار السورية المنهوبة.
ما بعد الانقلاب هو حتمية الفوضى التركية التي تأخرت خمس سنوات عن باقي المنطقة، فوضى أرادها الأصدقاء قبل الأعداء، كان تأخر التنديد ورفض الانقلاب من قبل الأصدقاء قبل الغرباء هي النقطة الأشد إيلاماً لأردوغان وحكومته، التي عبّر عنها وزير خارجيته في صباح يوم الانقلاب حينما صرح بأن الأصدقاء لم يرفضوا الانقلاب إلا حينما وصل أردوغان إلى مطار استانبول الدولي. أردوغان وسلطته تعرّوا أمام الانقلاب حتى ولو كسبوا الغطاء الديمقراطي الشعبي الذي يتغزلون به متناسين أنهم قمعوا العشرات من المظاهرات واعتقلوا الآلاف من المعارضين لأنهم طالبوا بدولة مدنية واحترام للدستور.
الموقف الأوربي والأمريكي كان متسقاً مع توجهاتهم بأهمية إزاحة أردوغان من المشهد السياسي وإعادة ترتيب البيت التركي كما كان قبل 2011 وتقييد التطلعات التركية نحو إعادة احياء الامبراطورية العثمانية التي يتبناها أردوغان وحزبه، صمت الرياض والدوحة وأبو ظبي كان له مفعول السم في جسد أردوغان، فهو لم يتوقع من المحور الخليجي الذي تناغم معه في بناء القوى العسكرية السنّية المناهضة لإيران في سيمفونية العزف المشترك التي أبدعوها طوال الخمس سنوات الماضية، وبينما كانت تعليقات الروس والإيرانيين محايدة إلا انها كشفت في باطنها عن شماتة مختبئة داخل العبارات الدبلوماسية المعتادة. خسارة أردوغان لم تكن في إظهار ضعف سلطته خلال الثلاث ساعات أمام العالم أو إظهاره بالرجل الذي يسْهل طرده عن كرسي الرئاسة، ولكن الخسارة التي شعر بها أنه مرفوض من الخارج قبل الداخل، أردوغان لا يملك من مساحة سلطته سوى ما ينتهزه ويبتزّه من الأمريكان والأوربيين، لذلك ألقى بكل ثقله إلى المحور الروسي- الإيراني مطالباً بعقد اجتماع رئاسي عاجل في أول آب مع الرئيس الروسي وهو ما وافق عليه الروس فوراً، الخسارة تحققت لكن النظام التركي مازال مصرّاً أن يكون موجوداً إلى آخر رمق حتى ولو على جسد الدولة التركية.
ما بعد الانقلاب سيظل مستمراً لشهور وربما لسنوات، فأردوغان انتهز الفرصة وأطلق يده في إعادة ترتيب البيت الداخلي، وقام بعزل عشرات الآلاف من مناصبهم وإيقافهم وتحويلهم إلى محاكمات، خسارة أردوغان ستتجاوز خسارته السياسية لتكون خسارة اجتماعية، ذلك أن معظم الموقوفين يمثلون عصب الطبقة المتوسطة التي كان أردوغان يعتمد عليها طوال الوقت في صراعه السياسي، أما الآن فأردوغان لا يملك من القدرة على إرضائهم أو منحهم المزيد من الدعم والموارد والديمقراطية، فقام بالإطاحة بهم معتمداً على صغار الفلاحين وفقرائهم، الذين ظهروا بشكل جلي وواضح في شاشات التليفزيون وهم يذبحون جندياً أو يلقون بآخرين من فوق جسر البوسفور أو يعاقبون الأسرى بالجلد والضرب، يخسر أردوغان طبقته الداعمة له في السابق من أجل خلق قطيع جديد لا يطلب منه سوى الخبز والماء، قطيع يطيعه دون مناقشة أو حوار.
الخسارة في تركيا لا تتوقف فقط عند أردوغان ونخبته السياسية، فالمؤسسة العسكرية هي الخاسر الثاني في إشكالية الانقلاب، ومن المهم فهم التركيبة الاجتماعية والعقائدية للمؤسسة العسكرية التركية في أنها لا تختلف في كل توجهاتها عن توجهات أردوغان وطموحاته، بداية من السيطرة على خريطة المنطقة، ونهاية بخلق فائض مالي وتكوين ثروات تعزز من قدراتها على ارتقاء قادتها وتحولهم اجتماعياً من الطبقة الوسطى إلى طبقة الأثرياء، كذلك فالمؤسسة العسكرية التركية لا تختلف عن أردوغان في سياسته المحافظة تجاه التطور في المجتمع التركي، وبالتالي لا نجد لها أي مبرر في القيام بالانقلاب سوى الضغط على أردوغان من اجل محاولة اقتسام غنائم الحرب في المنطقة وإعادة جزء من الامتيازات التي كان أردوغان قد انتزعها منها في السنوات العشر الأخيرة.
كوميديا الانقلاب لا تقف فقط على هزالة الانقلاب وضعف ترتيباته، فهي تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد من ذلك، فأردوغان بقرارت العزل والإقصاء والمحاكمة لقيادة المؤسسة العسكرية وطياريها يقوم بتفريغ المؤسسة العسكرية من خبراتها ومواردها البشرية ليحوّلها جزءاً من مؤسسته البيروقراطية. لتكتمل بهذه الجزئية مأساة المشهد التركي بأن يخسر أردوغان جيشه دون حرب.
الخاسر الثالث هم الأمريكان أصحاب نظرية اللاخسارة مهما كانت الظروف، لم يدرك الأمريكان أن أردوغان الذي يحتضنونه لسنوات طويلة قادر أن يكون خصماً منيعاً ومزعجاً طوال السنوات الخمس الماضية، فطموحات أردوغان العثمانية تسبق زياراته وطلباته من الشركاء، الأمريكان لم يشاركوا في الانقلاب بشكل مباشر لكنهم طوال الساعات القليلة كانوا أكثر الأنظمة غضّاً للبصر عن انقلاب المؤسسة العسكرية على السلطة المنتخبة، راهن الأمريكان على أمرين، أحدهما نجاح الانقلاب والسيطرة على المؤسسة العسكرية وتطويعها لخدمة أهدافهم كما كان أردوغان في السابق، أو فشل الانقلاب وإعطاء درس قاسٍ لأردوغان كي يتوقف عن مطالبه المزعجة. في كل الأحوال خسر الأمريكان الرهان وانتقل الأتراك إلى الخصم الروسي بخطوات هادئة، وتركوا باباً صغيراً موارباً قبل عودة تركيا للغرب في حالة تسليم عبد الله غولن والسماح لتركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي، أردوغان خسر كل شيء ولم يعد هناك خسارة أكبر مما خسره. أما الأمريكان والأوربيون فما زالوا ينظرون إلى المشهد التركي وكأنه لم ينتهِ بعد وأن هناك لقطة أخيرة في المشهد قد يعود فيها الكاوبوي الأمريكي ليظهر قوته الخارقة وينتقم من أعدائه.
المشهد التركي هو المشهد الأكثر مأسوية حينما ينقلب السحر على الساحر فوق خشبة المسرح ذاتها التي طالما صفق جمهورها للساحر وهو متألق عليها، الآن المسرح يخلو من الجمهور والأضواء هي أقرب للشحوب، ولم يعد باقياً من الأمر سوى أن ينتهي عرض المسرحية بالكامل لتخلق مسرحية أخرى بأبطال آخرين وفوق مسرح آخر.