بريطانيا.. من الخروج المدوّي إلى الانقسام!
بعد قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوربي، هل تبقى بريطانيا التي كانت عظمى ذات يوم على ما هي عليه؟ وهل تبقى أوربا بعد هذا الخروج كما كانت عليه قبله؟ تساؤلات من هذا القبيل باتت واردة ومشروعة.
بطبيعة الحال يصعب التكهن تكهّناً دقيقاً منذ الآن بتداعيات القرار وما قد يتبعه من أحداث وتطورات على مستوى بريطانيا، أو على مستوى الاتحاد الأوربي عموماً.. لكن هناك بالتأكيد ارتدادات اقتصادية ومالية ستصيب القارة الأوربية عامة وبريطانيا خاصة بعواقب وخيمة، وإلى جانب هذه الارتدادات سيتآكل الدور والمكانة السياسيين والمعنويين لكل من الطرفين، وستسقط – إن لم نقل سقطت- قوة النموذج التي طالما تغنى بها الطرفان لعقود من السنين وجرى استحضارها باستمرار للدلالة على قدرة شعوب أزهقت الحروب فيما بينها حياة الملايين من أبنائها وبناتها من أجل بناء المستقبل للجميع.
ستفتح السابقة البريطانية الباب على مصراعيه أمام دول أوربية أخرى انتظرت من يقفز قبلها من سفينة الاتحاد لتحذو حذوه، لكن من السابق لأوانه الجزم بذلك، أو تحديد وقت مثل هذا الخروج المتوقع، ذلك أن الأمر سيتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي سيخرج بها الاقتصاد البريطاني من (أزمة الانفصال) عن أوربا، إلا أن الأمر المؤكد أن عدة دول أعضاء في الاتحاد الأوربي ستعمل على إعادة النظر بشكل علاقاتها بالاتحاد ومحتواها، وصياغتها من جديد، في محاولة منها للاستفادة من عوائده المجزية، والتخلص مما يمكن أن يترتب عليها من التزامات ومسؤوليات، خاصة أن القارة العجوز تشهد منذ ربع قرن تقريباً حراكاً بشرياً هائلاً، تجسد في انتقال الملايين من العمال والباحثين عن عمل، من أوربا الشرقية والوسطى إلى دول غرب أوربا، وهو أمر يفوق بسطوته وتأثيراته تداعيات أزمة اللجوء السوري والعراقي والليبي إلى القارة بسبب الإرهاب.
إن بريطانيا نفسها التي اشتهرت زمن الحقبة الكولونيالية بسعيها الدائب لتقسيم الدول والمجتمعات المستعمَرة، وزرع الفتن والحروب المتلاحقة فيما بينها، من الصين والهند وجوارهما، إلى اتفاقية سايكس – بيكو وما تبعها من (وعد مشؤوم)، واتفاقيات تقاسم نفوذ لاحقة، إلى الفسيفساء الإفريقية التي عاث فيها (المقص البريطاني) تقطيعاً وتوصيلاً.. بريطانيا ذات الماضي الاستعماري العريق تشقّ اليوم القارة الأوربية، وتقود مسيرة تفكيك الاتحاد الأوربي بعد مضي قرابة ستة عقود على تأسيسه.
ومما يثير التعجب والسخرية في الوقت نفسه، أن أول ردود الأفعال على نتائج الاستفتاء البريطاني جاء من (سكوتلاندا) حيث يجري التفكير جدياً في إجراء استفتاء ثان للانفصال عن بريطانيا أيضاً، وليس لتفكيك الاتحاد الأوربي، بعد إخفاق الاستفتاء الأول الذي جرى عام ،2014 وثمة شبه يقين بأن الاستفتاء القادم سيأتي بنتائج مغايرة (أي مع الانفصال)، لا سيما بعد خروج بريطانيا من عضوية (النادي الأوربي)، وهو أمر قد يفتح الباب لتفكّك بريطانيا أيضاً، لا الاتحاد الأوربي وحده. إذاً.. بعد مئة عام على اتفاق سايكس بيكو السيئ الذكر الذي تعمل بريطانيا على الحفاظ عليه وعلى الكيانات التي أنشأها، ستحاول بذل أقصى ما يمكنها من جهود للاحتفاظ بآخر مظاهر العظمة المرتبطة باسمها وتاريخها بعد أن غابت شمس الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.. ولكن هيهات أن تعود لها عظمتها الآفلة!
إن ما يهم العرب من هذا الخروج البريطاني، هو كيف ستؤثر هذه الخطوة البريطانية على مواقف بريطانيا والاتحاد الأوربي من القضايا العربية؟ وهل من الممكن الاستمرار بالرهان على دور أوربي فاعل في حلّها وخاصة قضية الصراع العربي الصهيوني؟
خلاصة القول أو الإجابة هي أن أوربا التي ارتضت وهي موحدة دور التابع لأمريكا، لن يكون بمقدورها أن تلعب دوراً فاعلاً بعد هذا الخروج وما قد يتبعه، وستظل واشنطن مهيمنة على القرار الأوربي على المدى المنظور.