كي لا ننسى…شبلي شميّل…رائد الاشتراكية في بلاد الشام ومصر

 كان منتصف القرن التاسع عشر بداية لمرحلة جديدة في تاريخ الحركة السياسية والفكرية في بلاد الشام، وبدا لكثير من المراقبين آنذاك أن حالة الجمود والسكوت التي تميزت بها منطقتنا خلال أكثر من أربعمئة سنة من الحكم العثماني المتخلف، قد بدأت بالتزحزح، وأن مرحلة الظلام العثماني قد شارفت على نهايتها.. وفي هذه المرحلة بدأت المقدمات الفكرية لهذا التحول التي كانت تبشر ببدء عهد جديد لم تنضج ملامحه بعد، وانتهاء عهد قديم لايزال يقاوم، ويرفض الاستسلام.

في هذه الظروف، وفي عام 1850 يولد شبلي شميل في بيروت من عائلة متعلمة آنذاك، وكان يملك طموحاً واسعاً للتعلم، وساهم وضعه العائلي المتنور للسير في هذا المجال قدماً. كان يرى في اللغة العربية تعبيراً عن الطموح القومي إلى التحرر من النير العثماني، فدفعه ذلك للاهتمام بها، وكان يتساءل كثيراً عن الأسباب التي دفعت بالثقافة العربية للتخلف، وعن أسباب الجهل والأمية والفقر التي تنتشر واسعاً في صفوف الأكثرية الساحقة من الشعب.

يلتحق الشاب شبلي بالكلية الأمريكية في بيروت لدراسة الطب عام 1866 ويسافر بعد ذلك إلى فرنسا لإتمام دراسته، وهناك يتعرف على الاتجاهات الفكرية المنتشرة آنذاك في أوربا.. ويتأثر بفولتير ومونتيسكو وكتاباتهم النقدية حول الأفكار الدينية المنتشرة وقت ذاك، ثم يصبح بعد ذلك من أتباع اتجاه أوغست كونت المادي، ليتحول ويصبح من أنصار فلسفة داروين ونظرية التطور وأصل الأنواع، ويصل بعد ذلك إلى سان سيمون، ويتأثر بتعاليمه عن الإخاء والمساواة بين البشر، وعن الاشتراكية التي تحقق العدالة الإنسانية. وفي عام 1873 يعود إلى مسقط رأسه، ويشاهد بأم عينيه مظاهر الاستبداد السائدة، سواء من طبقة الإقطاعيين المدعومين من المحتلين العثمانيين، أم من قبل رجال الدين، وتخلف الرأي العام.

يقرر نتيجة ذلك الذهاب إلى مصر، حيث كانت مركزاً للمتنورين، فأقام في الإسكندرية ثم ذهب ليقيم في طنطا ويمارس الطب هناك، ويلتقي فيها بالأفغاني ويختلفان في الرأي بسبب النزعة المادية التي كان يميل إليها شميل. وينتقل في عام 1885 إلى القاهرة، ويفتتح مركزاً طبياً مع بعض أصدقائه لعلاج الفقراء مجاناً، ويؤسس مع حفني ناصيف بعد ذلك جمعية الاعتدال التي اهتمت بنشر الآداب العصرية والأخلاق الاجتماعية في الرأي. وأصدر شميل مجلة (الشفاء) لنشر الثقافة الطبية، وفي عام 1869 يرسل شميل خطاباً إلى السلطان عبد الحميد بعنوان (شكوى وآمال)، يذكر فيه أن الأمم الناهضة لا تقوم إلا على دعائم ثلاث هي:: الحرية والعدالة والعلم.

وفي صلاته ورسائله المقبلة يتحدث الشميل عن قيمه وطموحه للعدالة، وعن حتمية التطور الاجتماعي والإنساني ويدافع عن فلسفة النشوء والارتقاء، وضرورة الفصل بين الدين والعلم، فأدى ذلك لاتهامه بالإلحاد. كما طالب شميل بضرورة تطبيق النظام الاشتراكي في البلدان العربية مع الحفاظ على مكتسبات الفكر الديمقراطي، الضامن لحقوق الأفراد.

وناضل من أجل إقامة المناهج التربوية على قاعدة ثابتة من العلم الحديث، مع تخليصها من الحشو والأساليب التلقينية في التدريس، وضرورة تحرير المرأة، والتسامح، والعمل من أجل تفعيل السلام الدائم بين الأمم.. ولقد وقف ضد الظلم والقهر والاستبداد، ودافع عن احترام حرية المعتقد والفكر والتعبير.

لقد كان واحداً من الذين أسسوا وساهموا في إرساء ملامح الفكر التنويري النهضوي، وأرسوا اللبنات الأولى والجنينية في تكوين الفكر الاشتراكي، ولذلك يجب أن يبقى في ذاكرة الأجيال المقبلة من المناضلين من أجل المثل الإنسانية العليا كطموح من نزعة البشرية الدائمة نحو العدالة الاجتماعية.

العدد 1136 - 18/12/2024