التباينات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وتركيا حول سورية

 إن مراقبة إجراءات الإدارة الأمريكية على الحملة العسكرية للجيش السوري والقوات الكردية المقاتلة في ريف حلب، يُظهِر أن هذه الإدارة لم تتخذ أي إجراءات (مضادة) بمعنى الكلمة. وقبل ذلك بعدة أشهر، مع بداية الحملة الروسية، سحب الجيش الأمريكي بطاريات الباتريوت التي كان قد نشرها عام 2012 بعيد اشتداد الأزمة السورية، ثم نشر بدلاً عنها طائرات إف15 المقاتلة في قاعدة إنجرليك الجوية جنوب تركيا. ثم سحبها بعد ذلك بوقت قصير.

في مقابل ذلك، نشاط القوات العسكرية الروسية كان أكثر جدية وحسماً، لمواجهة أي تهور يمكن أن تقوم به تركيا، بدءاً من إرسال أهم طائرة تجسس في سلاح الجو الروسي (تو-2014 – ار)،وأيضاً الطراد البحري القاذف (زليوني دول)، إلى تعزيز القوات الجوية الروسية في أرمينيا، وأخيراً زيارة وزير الدفاع الروسي الأخيرة سيرغي شويغو إلى ايران.

وفي نقطة انقلاب الموازين الاستراتيجية، ونقصد هنا لحظة فكّ الحصار عن بلدتي نبل والزهراء، بدا تردد الإدارة الأمريكية في أقصى وضوحه. ففي الوقت الذي لم تأخذ هذه الإدارة أي مبادرة سريعة وعملية على الأرض لوقف تدهور الميليشيات الإسلامية المسلحة أمام الجيش السوري وحلفائه، لكن وجدنا أصواتاً، خاصة من الجانب الجمهوري، تنادي تحت ضغط وتأثير من حليفيها الرئيسيين في المنطقة: تركيا والمملكة العربية السعودية، بالمساعدة السريعة للميليشيات العسكرية المسلحة قبل سقوط حلب.

لكن سياسة التردد التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه تطورات الأزمة السورية الأخيرة لها معيقات عدة، أهمها الوضع الذي فرضه دخول القوات الجوية الروسية على سير المعارك إلى جانب الجيش السوري، خاصة فيما يتعلق بالشمال السوري. إن تحالف الإدارة الأمريكية مع (قوات سورية الديمقراطية) من جهة، والجماعات الإسلامية (المعتدلة) من جهة أخرى، سوف ينتج إشكاليات عميقة، ليس على صعيد علاقتها مع تركيا فقط بل مع حليفها الكردي. إن نهوض القومية الكردية هو العامل الأكثر استجابة للهدف الاستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة المتعلق بإيجاد تقسيم واقعي لسورية والعراق. وفي الحقيقة هي الاستراتيجية الأكثر خطراً، بالمعنى الوجودي لتركيا الحالية. الولايات المتحدة تراهن على الكرد لأنهم يمثلون المستقبل (بكفاحهم)، بينما تمثل الميليشيات الإسلامية المسلحة دوراً وظيفياً تكتيكياً يخدم المصالح الاميركية لوقت محدد أو لتحقيق أهداف محددة زمنياً.

تركيا التي لعبت دوراً خطيراً وحاسماً في عسكرة الأزمة السورية منذ بداية عام ،2011 وسببت بشكل لا يقبل الشك، خللاً استراتيجياً كبيراً وعميقاً في استقرار المشرق، بإغراقها الساحة السورية بآلاف، بل بعشرات آلاف المسلحين الإسلاميين المتشددين، آملة أن يكونوا لها حصان طروادة في إعادة إملائها للفراغ الاستراتيجي العربي، ولو كان هذا عبر الإرهاب والمجازر والتطهير العرقي.

ربما الولايات المتحدة لا تريد في سيناريوهاتها للمنطقة أن تصل الأمور إلى ما أوصلها إليه حليفها التركي، لما قد يحمله هذا من خطر كبير في حدوث تحولات كيفية في الوعي الإرهابي في المنطقة وانتقاله إلى الخارج، مهدداً المصالح الغربية في أكثر من منطقة في العالم. من هنا ترى الولايات المتحدة أن الميليشيات الإسلامية المسلحة أداة وظيفية لفترة محددة، بينما تراها تركيا أدوات باقية في إمكانية توظيفها ما دامت هناك أنظمة قمعية باقية تحكم شعوبها بالترهيب والفساد. فالحكم شبه الشمولي يولّد بالضرورة بيئة جاهزة لفرض الهيمنة من الجيران الأقوى.

في الواقع وصل التباين بين الولايات المتحدة وتركيا إلى حد غير مسبوق. الولايات المتحدة والغرب صمتا بشكل لا أخلاقي عن العمليات العسكرية والأمنية الفظيعة التي قامت بها الأجهزة الأمنية للحكومة التركية ضد الأكراد في عدد من المدن والبلدات شرق تركيا، منذ بداية هذا العام. وأشارت تقارير إلى أن 12 موقعاً بين بلدة وقرية سوّيت بالأرض، وقتل أكثر من 1500 شخص بين مدني ومسلح، وحوالي 300 عنصر تركي.

لكن الولايات المتحدة في الوقت نفسه، وفي حال بقيت الحماسة العدوانية لحزب العدالة والتنمية مستمرة، ربما ستكون تركيا على موعد مع انتخابات مبكرة قبل نهاية هذا العام، إذ إن الولايات المتحدة تملك من الأوراق ما يكفي للعب في الواقع التركي. وللمفارقة المثيرة للسخرية، فإن السياسي التركي الذي يدافع من على المنابر الدولية عن حقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة، ويعبر عن (قلقه) من الهدنة المعلنة في القرار الأممي ،2268 هو نفسه يقوم بقمع مكونات من شعبه، وهو نفسه لم ينبس بكلمة يؤيد فيها أو يدعم فيها الهبّة الفلسطينية الحالية؟!.

العدد 1140 - 22/01/2025