كلاب واشنطن

(كلاب واشنطن) هكذا وصف المفكر والفيلسوف الفرنسي الراحل جورج لابيكا مَن يسمّون بالفلاسفة الجدد في باريس، الذين أوكلت المخابرات الأمريكية إليهم مهمة تقويض الثقافة اليسارية وضربها خلال السبعينيات، ولعب بعضهم مؤخراً أدواراً تنفيذية خطيرة في العدوان الهمجي على سورية. فأيّ وصف ينطبق إذاً على الأتباع من قادة العالم العربي السياسيين ونخبه المثقفة والدينية المرتبطة علناً بالمشروع الأمريكي الصهيوني لتدمير سورية وإخضاعها للهيمنة وسلب إرادتها ومصالحها وقرارها الوطني السيادي المستقل؟

ممالك الخليج العربي ومشيخاته وقّعت منذ نشأتها اتفاقيات (تابع ومتبوع) تقوم على تأمين حماية الغرب لها مقابل تأمينها مصالحه الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبقيت هذه الاتفاقيات مكتومة حتى عام 1977 حين بدأ الرئيس المصري أنور السادات عهداً جديداً من (عبقرية) التبعية التي عبر عن إعجابه بها وزير الخارجية الأمريكي حينذاك هنري كيسنجر، فقد تفتقت مازوشيته عن عرضه على كسينجر تسليمه الخطط الأمريكية الخاصة بالمنطقة لإعلانها أمام الشعوب العربية بصفتها مشاريع مصرية (راجع نص الحوار بين الرجلين في ص 689 من كتاب محمد حسنين هيكل – أكتوبر 73 السلام والسياسة). 

يقول نارام سرجون استناداً إلى كتاب أحمد بهاء الدين (محاوراتي مع السادات): (السادات كان لديه استعداد لبيع مصر والدنيا كلها مقابل رضاء أمريكا لأنها الوحيدة القادرة على حماية عرشه، فسلمها 99% من مقدرات مصر، وكل ما تعاني منه مصر ما هو إلا نتائج تلك الفترة، وكل من جاء بعد السادات سار على طريقه في البحث فقط عن تأمين عرشه (وكان السادات يعتقد أن تخلي مصر عن خيار الحرب لن يترك فرصة أمام سورية سوى اللحاق بركب مقطورة التبعية العربية وكان قد تعهد بإلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل من جانب واحد وحماية الرعايا الإسرائيليين في الدول العربية، وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية مع كيان العدو، وإذا كان السادات قد لقي المصير الطبيعي للعملاء فإن خلفه حسني مبارك لم يخيب آماله بهذا الخصوص، فكرس عهد الخراب الأمريكي العربي المعنون بالسلام، وساد خطاب سياسي جديد في العالم العربي نقيض خطاب المقاومة مترافقاً مع تهافت المزيد من الدول العربية للتطبيع، فالسياسة الانهزامية لـ (أم الدنيا ) جعلت مشيخات الخليج تتنفس الصعداء، وفتحت شهية كل الدول العربية المقنعة بالسيادة والالتزام بالصراع العربي الصهيوني على التخلص من كابوس هذا الالتزام والتصرف بشخصية قطرية ضيقة ومتقوقعة حتى أمست التبعية حالة دهرية في الواقع العربي، حسب وصف د فؤاد خليل (الطريق- العدد2) وخاصة بعد عواصف عام 1991 واضطراباته والتغييرات التاريخية التي حملها بسقوط المنظومة الاشتراكية، إذ رفع الأتباع العاجزون شعار (الواقعية العقلانية ) الذي فحواه أن الوقت هو وقت سلام وليس ملائماً لمواجهة غير مجدية مع العدو ستكلف العرب أعباء لا يستطيعون تحمّلها،

ولم يكد يمضي عامان حتى عملت لجنة مشتركة أمريكية إسرائيلية فلسطينية مصرية على إلغاء 31 قراراً للهيئة الدولية صدرت بحق إسرائيل بسبب ممارساتها الإرهابية الممنوعة دولياً، في الوقت الذي بدأت تتهم سورية بدعم الإرهاب لكونها تقف مع حق دولي قانوني مشروع هو حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم تكن ازدواجية المعايير تلك هي الشذوذ الفظ الوحيد بل أصبحت تلك الازدواجية السمة الأبرز لأمركة العلاقات الدولية وتوحشها وفقدانها للقيم بين مجموعة من السمات المنحطة كالتشويه الإعلامي للحقائق التاريخية وتغذية روح العنف والتطرف والتلاعب بوعي الناس وقلب الرؤى والمفاهيم والتلقين، وتفشي الرجعية بوجه شفاف معاصر وكبح الصوت التقدمي ووسمه بالخشبي، وتقديم التيار السلفي الرجعي بديلاً شعبياً له، وتصاعد وتيرة النزاعات والانقسامات بين محاور ودول فيما بينها وفي داخل نسيجها الاجتماعي، لذلك عندما حدد جورج بوش الابن عام 2003 لأتباعه من العرب عدوّه الإيراني عدوّاً لهم بديلاً لعدوّهم الصهيوني، في واحدة من كبرى مهازل مطلع القرن الحالي، لم تمضِ ساعات على خطابه حتى بدأ النباح الإعلامي المصري والخليجي يطلق في تواتر مركّز ومحاكاة لعبقرية التبعية الساداتية الكامن من الحقد المذهبي التراثي بين السنة والشيعة، على مدار الساعة، ولم تمضِ أكثر من ثلاث سنوات على ذلك الطرح الساذج والرجعي والواضح الأهداف حتى استحوذ على وعي بعض النخب المثقفة المحلية التي تبنته بالتلقين وراحت تردده ببغائياً بانفعال يوحي وكأنها فعلاً صاحبة القرار فيه، أثناء حرب تموز 2006 وبعدها، إذ بلغت الوقاحة حداً غير مقبول، بمباركتهم العدوان الإسرائيلي مع سيل من التصريحات التحريضية المذهبية الطابع ضد محور المقاومة عموماً، وسورية خصوصاً المحاصرة بمحيط معولم أمريكياً بالكامل يتسرب طيفه إلى الداخل دون أن تُتخذ أية إجراءات داخلية لجعل المقاومة فعلاً جماهيرياً وثقافة شعبية وطنية تكبح جماح ثقافة الأمركة.

هذا العرض المختصر للسياق التاريخي في المنطقة يكفي لمعرفة الغاية من تفجير أحداث آذار 2011 في الداخل السوري، التي استُغل فيها الفراغ المتروك بين البنيتين التحتية والفوقية، واستياء الشعب السوري، فقدمت دول الرجعية العربية وحماتها الدوليين من أصحاب السجل الحافل باضطهاد الشعوب واستغلالها واحتقارها، قدمت نفسها للشرائح الأكثر فقراً وجهلاً في المجتمع السوري حاميةً لها وحاملة لقضيتها، وغازلت وعيها بشعارات انسانية زائفة لم تبغِ من ورائها سوى استخدام تلك الشرائح في تدمير موطنها وتركيب نظام مدجن فوق أنقاضه، يسير في ركب النهب الممنهج لصالح الاقتصاد الأمريكي، فقد افتقرت العمليات الاحتجاجية إلى أي توجه طبقي وأي توجه لصالح تقدم المجتمع، وسرعان ما حلّت راية دولة الخلافة السوداء محل واجهة (الحرية، الكرامة ) التي تلطى وراءها أيضاً كل ناهشي الجسد السوري من محافظين جدد إلى فلاسفة جدد، من برنارد ليفي، برنارد كوشنير، جيل هرتزوغ، أندريه غليكسمان، لوران فابيوس، ألكسندر غولدفارب، إلى بسمة قضماني، برهان غليون، لمى الأتاسي، عبد الحليم خدام وغيرهم، إلى الهيئات الإفتائية المذهبية وشخصياتها الدينية المأجورة، إلى المرصد السوري لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء الحقوقيين إلى الشخصيات السياسية الإقليمية،

إذ كان قد توافد وزير الخارجية القطري ثم وزير الخارجية التركي فوزير الخارجية الإماراتي، إلى دمشق، تباعاً في الأشهر الثلاثة الأولى من العدوان للمساومة على وقف نشاط الشارع السوري مقابل ثلاثة شروط: الأول قطع سورية علاقاتها مع إيران، والثاني التزامها بإعادة سعد الحريري إلى الحكومة اللبنانية وضمان دعمه واستمراره، والثالث ترك ملف الصراع العربي الصهيوني تديره أمريكا وإسرائيل، لتصفيته بالطريقة التي تريانها مناسبة (راجع كتاب سورية.. الإبحار في العاصفة- ص 105). والاستنتاج الأول من هذه الشروط هو أن قرار وقف نشاط الشارع السوري كان من البداية بيد واشنطن وحلفائها وليس بيد اية جهة سورية داخلية، وأن الغاية من العملية برمتها هي فرض الطاعة على سورية. وحين فشلت تلك المساومة اقتاد كلاب واشنطن الجماهير نحو السلوك الهمجي الدموي التدميري الغريب عن ثقافتنا السورية، السلوك الذي كلف الدول التي ادعت عدم قدرتها على تحمل أعباء المواجهة مع العدو الإسرائيلي 45 مليار دولار صُرفت لتمويل الأعمال الإرهابية وشحنات السلاح إلى الداخل السوري، في أكبر عملية خرق للقانون الدولي وأكبر الجرائم والمجازر التي عرفها التاريخ المعاصر.

العدد 1140 - 22/01/2025