الاستثمار في الإرهاب.. أحد أشكال حروب الجيل الرابع!

كان من اللافت للنظر منذ هبوب الرياح السامة لما يسمى (الربيع العربي) عام 2011 وانطلاق موجات الفوضى في بعض الدول العربية، هو التكثيف المتعمد للهجمات على مفهوم (الجيش الوطني)، لأنه العمود الفقري الذي يقوم عليه بناء الدولة، والسياج الذي يقيها من الأعداء في الخارج والداخل.

ومن الملاحظ أيضاً أن الدعوة إلى اعتبار الجيش الوطني عدواً، قد أُطلقت بشكل واضح من تنظيم (الإخوان المسلمين) فور نهاية حكمهم في مصر، لتنتشر هذه الدعوة الخشبية بين كل جماعات التكفير المنشقة عن الوطن والدولة، ولتصبح مبدأ لهذه الجماعات الرافضة للدولة والوطن، بدءاً من جماعة الإخوان، مروراً بالمتحالفين معها، وصولاً إلى التنظيمات الإرهابية الأخرى مثل داعش وجبهة النصرة وما لف لفهما.

إن موضوع استهداف الجيش عبر ضربه وتفكيكه وتفريغ الوطن من وجوده، من شأنه في حسابات هذه الجماعات خلق فراغ داخلي في الدولة يمكن أن يهيئ لهؤلاء المنشقين فرصة اقتحام حدود هذه الدول التي ستكون مفتوحة أمامهم في حال تدمير الجيش.. وكما رأى الجميع منذ بداية ما يسمى الربيع العربي، أن الأغلبية الساحقة للجماعات الإرهابية المسلحة الوافدة كانت تتشكل من عناصر أجنبية جاءت من دول أخرى لا تربطها بالوطن الذي وفدت إليه أي من أواصر الانتماء، فهي جاءت بالأساس أو بالأحرى جيء بها لتخلق لنفسها شكلاً من أشكال الوجود الاستعماري القديم، وإن أضيف إليه بعض سمات العصر الحديث، فهم ينشئون بمساعدة بيئة طاردة لأبناء البلد، وجاذبة في الوقت نفسه لعناصر من جنسيات أجنبية بعد إغرائهم بالمال وبالوعود الأخرى، بما يساعدهم على إقامة شكل من أشكال (اللادولة)، الأمر الذي يُشعل حروباً وصراعات لا تنتهي مع الدولة التاريخية الشرعية في هذا الوطن أو ذاك.

ولكن رغم ذلك، بقيت هناك دول يتجذر في صميم بنيانها المادي والمعنوي مفهوم الجيش الوطني الذي يدين بالولاء لوطنه ودولته، ويعي جيداً دوره التاريخي في المحافظة على الهوية الوطنية والقومية، خاصة في سورية ومصر، حيث استطاع الجيشان السوري والمصري أن يفلتا من الكمين الذي أُعد لهما لتدميرهما تدميراً تاماً، فالجيش المصري نجح في الحيلولة دون أن يمسّه أي ضرر من قبل جماعة الإخوان المسلمين، وبرهن أنه الضمانة الحقيقية للشعب المصري من خلال إزاحته لنظام حسني مبارك، وعزله لاحقاً للرئيس محمد مرسي استجابة للتظاهرات المليونية المصرية التي طالبت بذلك. أما الجيش السوري فكان المثال الأبرز للنجاة من مخطط تدميره وذلك عبر تماسكه وصموده الأسطوري لمدة أكثر من خمس سنوات في وجه أعتى حرب إرهابية تشنها دول كبيرة عليه، عن طريق وكلاء، أي عن طريق مجموعات إرهابية مسلحة عابرة للحدود.. وأكبر شاهد على ذلك ما نشرته مصادر ألمانية مؤخراً حول الأعداد الإرهابية الهائلة التي قاتلت في سورية والتي وصلت إلى 360 ألف إرهابي، هذا العدد الضخم يشكل عدة جيوش في العرف العسكري وليس جيشاً واحداً!

أيضاً من الجيوش الوطنية المستهدفة الجيش الليبي والجيش اليمني والجيش اللبناني وإلى حد ما الجيش الجزائري، هذا إضافة إلى الجيش العراقي الذي سُرح بالكامل عام 2003. ولا يكف أصحاب دعاوى إسقاط الدولة  الوطنية عن إطلاق دعاواهم التحريضية لضرب الجيوش الوطنية، أملاً في أن تجد التجاوب معها ويصار إلى تبنيها عملياً، إلا أنهم يصطدمون غالباً بجدار صلب يعرف الواقفون على امتداده حقيقة هذه المخططات والدعوات وأهدافها ومن يحركها ويقف وراءها ويتلاعب بالعناصر المتورطة فيها.

بعض المؤلفات والدراسات اتخذت من العراق نموذجاً صارخاً لما جرى لجيشه كمدخل نحو هدم الدولة، ومن بينها دراسة البروفيسورة توبي دودح، أستاذة العلاقات الدولية بجامعة لندن، قالت فيها: إن فشل حكومة العراق في ردع تقدم داعش داخلياً يفهم جيداً على ضوء الطريقة التي اتبعتها الحكومات هناك منذ عام 2003 والتي قوضت بشكل منظم ركن القوات المسلحة كأول أركان بقاء الدولة، وهي السياسة التي أكملت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه بالقرار الأمريكي بتسريح الجيش العراقي).

في ظروف هذا العصر، حيث تكثر المنظمات البعيدة عن شكل الدولة والخارجة عن القوانين المحلية والدولية، تصاعدت الهجمة على القوات المسلحة الوطنية، نظراً لأنه من أولى مهامها حماية الحدود وحماية الداخل من جماعات العنف المسلحة التي تتبنى نفس أيديولوجية الخارج الرافضة للجيش الوطني.

وما جرى في العراق بإسقاط الجيش الوطني ما أدى إلى الفوضى، فإنه يكاد أن يتكرر في دول عربية أخرى اقتحمتها الميليشيات الأجنبية المسلحة التي ينتمي أفرادها إلى جنسيات متنوعة، وأحالوا حياة أبناء هذه الدول إلى جحيم لا يطاق.

كل هذه الأعمال تعيد صورة الاستعمار القديم، لكن ليس على يد الاستعماريين القدامى مباشرة، وإنما عن طريق وكلاء محليين طبقاً لتعريف حروب الجيل الرابع التي أطلقت عام 1989 كمصطلح من قبل محللين أمريكيين، أو طبقاً لتعريف البروفيسور ماكس مايوراينك، حين ربط بين المخططات الخارجية والمنظمات الإرهابية، وقال: (إن عناصر حروب الجيل الرابع تتمثل في استثمار النشاط الإرهابي، ووجود قاعدة إرهابية متعددة الجنسيات داخل الدولة المستهدفة، كما هو في سورية والعراق وليبيا واليمن).

العدد 1140 - 22/01/2025