الحقائق المقلوبة

 هناك ثلاثة افتراضات غير صحيحة:

الافتراض الأول، أن هناك رشداً لدى الدول والحكومات، خاصة عندما تتصرف في أموالها فتتجه بالإنفاق إلى الغذاء والكساء والصحة والتعليم، بينما توجه لشراء الأسلحة وأدوات التدمير القدر الأقل.

الافتراض الثاني أن هناك شمالاً وجنوباً، أغنياء وفقراء، وأنه من الطبيعي والشائع أن الشمال يساعد الجنوب، وأن الأغنياء يوفرون للفقراء ما يساعدهم على التنمية ومواجهة الأزمات.

أما الافتراض الثالث، فهو يتعلق بالأغنياء والفقراء في الوطن الواحد حيث تعودنا أن نقول إن الاعتمادات الحكومية المخصصة للخدمات الاجتماعية- كالصحة والتعليم- تتجه في معظمها للفقراء لأنهم أكثر حاجة.

لقد اتضح بالأرقام أن الافتراضات الثلاثة غير صحيحة.

السلام أولاً

 ورد في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة عام 2007 أن 38% من الإنفاق الحكومي المركزي للدول النامية يجري تخصيصه للنفقات العسكرية وخدمة الديون، بينما لا تزيد نفقات سائر أوجه الحياة من صحة وتعليم وإسكان وثقافة وبنية أساسية واستثمار على 62 بالمائة.

وفي التفاصيل أن الأكثر فقراً هم أكثر إنفاقاً (مع استثناءات قليلة في دول الخليج) على الدفاع وخدمة الدين، فالنسبة في جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا تصل إلى 35 بالمائة، وفي جنوب آسيا إلى 38 بالمائة، وذلك مقابل 21 بالمائة في الأمريكيتين، وفي مقابل 23 بالمائة فقط تنفقها البلدان الباقية على الصحة والتعليم.

وبمزيد من التأمل نجد أن نمط الإنفاق العسكري في الدول النامية لا يتغير، فقد انتهت المواجهة بين الشرق والغرب، ونجحت محاولات الحد من التسلح في دول الشمال، وانتقل خطر الحروب من (شمال- شمال) إلى (جنوب- جنوب) والدليل هو تلك التوترات والصراعات الإقليمية الممتدة من آسيا إلى إفريقيا، ومن الخليج العربي إلى الشرق الأوسط بأسره.

إن خطر الحروب انتقل جنوباً، وكان ذلك ملمحاً أول لحقبة ما بعد الحرب الباردة، أما الملمح الثاني فهو أن الحرب لم تعد بالضرورة عابرة للحدود السياسية، بل إنها تجري داخلها، إنها حروب أهلية وطائفية وعرقية، وبما يفرض ملمحاً ثالثاً هو تغير نوعية السلاح المطلوب والرائج، فالحرب الصغيرة قد لا تحتاج إلى السلاح الأكثر تقدماً في فنون الدمار، والذي ينتشر سماسرته في معظم بلدان العالم الثالث، بعضهم يرتدي زي الجنرالات، وبعضهم يرتدي زي السياسي، والقليل منهم تاجر مشهود له بالتجارة، إنها خريطة الموت والتوتر التي تستنزف النفقات مما يدفع الحكومات للاستدانة، لتجد نفسها بعد حين وقد توجهت بما يقرب من 40% من نفقاتها للدفاع والديون.

الجنوب يدفع أكثر

لقد جرى ترحيل الأزمات من الشمال إلى الجنوب، ومع الأزمات الجنوبية قلّت معونات الشمال، وسقط الافتراض الثاني، وهو أن التمويل يتجه جنوباً، وطبقاً لمصادر الأمم المتحدة، فمنذ عام 1984 كان صافي التحويلات المالية لصالح الدول الصناعية على حساب البلدان النامية.

وإذا كانت الدول الصناعية سابقاً تساعد الدول النامية من خلال قروض تسهيلية بفوائد صغيرة وآجال طويلة، لأن الرهان كان واضحاً وهو أن الدول النامية تقترض لتستثمر وتصلح الاقتصاد وتزيد الإنتاج، ومن عائد ذلك كله تسدد ديونها، ويبقى لها هامش لتحسين وجه الحياة.

إن هذه النظرية قد اختلّت في الواقع، وتراكمت الديون وزادت مستحقاتها، وإذا أجرينا مقاصّة بين ما تأخذه الدول النامية وما تسدده للدول الصناعية من فوائد وأقساط قروض سابقة، فإننا نجد الصافي أكثر من 55 مليار دولار لصالح الدول الصناعية عام 2008.

لقد أصبح الجنوب يمول الشمال، وسقط الافتراض القديم الذي كان يقول: العون يتجه جنوباً.

.. والأغنياء أولى بالرعاية

 الأمر نفسه شهدته المجتمعات النامية من الداخل، فالفقراء الذين هم أولى بالرعاية أصبحوا يأخذون أقل.

تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة عام 2010: (لقد أصبح من المألوف أن نرى ما يعادل 75% من الإنفاق العام الحكومي) على الصحة يخدم أغنى 25% من الناس، كما أنه من المألوف أن نرى قدراً أكبر من المال ينفق على عمليات معقدة بدلاً من أن ينفق على إجراءات زهيدة التكلفة قادرة على القضاء على الأمراض العامة، بل وكثيراً ما تنفق نسبة مئوية عالية على العلاج في الخارج للقلة المترفة).

الشيء نفسه في مجال التعليم الذي يتجه معظم الإنفاق فيه للتعليم العالي وليس للتعليم الأولي الذي يمثل قاعدة اقتصادية وثقافية مهمة في المجتمع، والنموذج لذلك: الهند، حيث يتكلف الطالب الجامعي بين 60-70 ما يكلفه طفل في التعليم الابتدائي، والنتيجة أن نصف الطلاب لا ينهون تعليمهم الابتدائي، بينما تقوم الجامعات بتخريج أعداد بلا عمل حقيقي.

إنه التشوه في نمط الإنفاق، لكنها أيضاً قصة المعادلات المقلوبة، والافتراضات التي سقطت مع الزمن.

ألسنا في عصر الانقلابات السياسية والاقتصادية والفكرية؟

ألسنا في عصر جديد نشهد ملامحه يوماً بعد يوم؟!

هذه هي بعض الملامح: السلاح أهم من التعليم والصحة.

الجنوب يساعد الشمال،  والأغنياء أوفر حظاً في نفقات الحكومات واهتماماتها.

العدد 1140 - 22/01/2025