الوصفات القاتلة

كان الترويج الأكبر للعولمة يحمل لافتات رفاهية وسعادة وتنمية للإنسانية جمعاء، في استلاب حقيقي للعقول التي جهلت والتي ورطت في الوصول إلى صيغتها، وتناسى هؤلاء لعبة الأمم والتاريخ والمستقبل الذي يكتبه المنتصر، بهدف الوصول إلى تفريغ منظم للعقول والسيطرة على الصورة والأذن والقلم.

على مدى العصور كان الاقتصاد هو الغاية والمحرك للغزوات وللحروب، بمعزل عن ماهية مكونات الاقتصاد، حسب الزمن الذي قامت به الغزوة أو الحرب، وكان في كل وقت هناك منتصر يفرض رؤيته وسلوكياته ويعود الفرقاء إلى إعادة البناء، وهكذا حتى وصلنا للانتقال من صيغة الدول الفردية إلى صيغة القيادة الجماعية للعالم، وإن كانت ستارة لاختباء طرف واحد أو دولة واحدة أرادت امتطاء الجميع والوصول إلى قيادة منفردة تصبغ العالم برؤيتها أو لونها أو ما هو أكثر من ذلك: جعل العالم يدخل في صراع دائم وفوضى عارمة تهدم كل شيء، حتى تصعب العودة والارتقاء وصولاً إلى السيطرة المطلقة.

 سابقاً كان النهب والسلب قد يقتصر على المواد الأولية وتسخير اليد العاملة، أما الآن فإن المشروع يهدف إلى تدمير شامل لكل ما نجم عن نمو وتنمية مستمرين ومستثمرين الموارد عبر عقول وكفاءات بذل الكثير لإعدادها. إضافة إلى تفريغ البلدان من العقول والكفاءات والمهارات بحيث يصعب أي تفكير بإعادة الإعمار والبناء ويصبح الماضي حلماً لأغلب البلدان المستهدفة. الوصول إلى هذا النمط من الفوضى والحروب لم يأت من فراغ، إنما كان ممأسساً، بتوصيات عالمية وبركائز تابعة لها عبر أقنعة محلية منفذة لمشاريعها القاتلة بوتيرة هندسية، فالرصاصة قد تقتل شخصاً، والمدفع يقتل عشرات، وحتى النووي يمكن حصر قتلاه، ولكن لا يمكن تحديد  العدد المقتول بسبب برامجهم، فقد تقتل بلداناً بأكملها أو أجيالاً متتابعة عبر متوالية حمراء لقلوب وعقول سوداء غايتها التفوق والربح والسيطرة والهيمنة العابرة للزمن، وسط أسوأ تفكير تدميري إقصائي ابتزازي استلابي عرف عبر العصور لشخصيات أصطفتها السنون لدولة بنيت وفق أسس بعيدة عن الإنسانية وعن التطور التاريخي الإنساني، فمنفى اللصوص والمرتزقة والمنبوذين لا يمكن أن ينشأ عنه قديسون، والتعود على عبادة المال والغرائز لا يولد انضباطية ولا نظاماً، ولا ينشأ عن كل ذلك إلا الغرائز القاتلة، فالتفوق الهش الذي لا يستمر من دون تمزيق الآخرين وتفتيتهم وقتلهم وإرهابهم وتمزيق أي شكل من أشكال العمل الجماعي أو الالتحام الجماعي وسط نفاق إعلامي دعائي يتذرع بحقوق الإنسان والديمقراطية والحرية. ومنها الوصفات القاتلة لما سمي الليبرالية المتبنية للحرية، مع العلم أن متبني هذه الوصفات هم أهم معرقلي الحرية السياسية وحتى الاقتصادية ومواجهيها، إلا بما يخدم مصالحهم. فأيُّ ليبرالية هذه في ظل ظروف من الفساد المنظم المتفشي؟! ومن خلال برامجهم الممهدة لتمرير غاياتهم عملوا على مضاعفة الفساد وتوسعه الأفقي والعامودي وعولمته عبر قيادات منظمة على مستوى العالم، وظهور أنواع جديدة هدفها قصف أي مناعة جماعية أو فردية، ومسح الهويات الجامعة، لتنمية الفردانية الغرائزية القاتلة وإبراز العقائد الاستهلاكية الماصة لأي تراكمات بنائية لاحقة.

 وهنا تبرز خفايا المقاتلين المحليين عن الليبرالية، هل يعلون الصوت بشكل ببغاوي أم حول ما يطمحون له؟ لأن ظروف الواقع وما سبقه لا يمكن لأي جو ليبرالي أن ينمو فيه، وما حصل كان نمواً وبروز مراكز قوى سوداء مركزة ومتمركزة لتمرير الوصفات القاتلة التي لم تخجل منها الدولة الراعية لما سمي الأمركة بغطاء العولمة. فوصفاتهم عبر المؤسسات المتأمركة تحت تسمية ظاهرة عالمية من بنك دولي وصندوق نقد دولي علنية باتجاه سحب يد الحكومات عن قيادة العمليات الاقتصادية وجعلها محصورة بأيد قليلة غير عميقة وإشكالية. وكانت أغلب الأهداف نحو تفتيت البنى وتهشيمها وصولاً إلى ضرب الهوية الجامعة عبر إبراز هويات قاتلة وفق عمل تاريخي على تنمية الانتماءات ما قبل الوطنية لاستثمارها في الوقت المناسب لهم، وهكذا كان الهدف الأكبر لوصفاتهم القاتلة هو الفرز الطبقي شديد التمركز نحو فئة تملك أغلب الثروات وتتحكم بكل المفاصل الاقتصادية، وتسخر لها القوانين والأنظمة، مقابل أغلبية فقيرة وتحت خط الفقر، وبذلك تكون قد حطمت أغلب ثمار الجهود التنموية السابقة التي أوصلت البلدان إلى مراحل جيدة من مختلف أنواع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي إن أعدت مرتكزاً لما لاحق سيكون هناك الكثير من الاستقلالية والاستمرارية، وهما أهم الأمور عدائية لمصالح ركائز المال العالمي المتمركز بالدولة الفاقدة للشرعية في قيادة العالم، ولذلك مصالح التمركز المالي العالمي المختزل بالشركات متعددة الجنسيات هي الهدف، ولا حصانة لأي دولة مقابلها وحتى لو كانت حليفة لما قبل هذه الأيام، وسينالها جزء من شرور الوصفات القاتلة التي أهم عناوينها: لا عدالة اجتماعية، لا تنمية مستقلة مستمرة، لا حكومات تمثيلية حرة، لا إنسانية ولا حقوق الإنسان والدول، والسيادة لأي دولة مشروطة بمصالح وصفاتهم، وحتى الأمم المتحدة مسخرة للتدخل.

 إن الوصفات القاتلة كانت سبباً مباشراً لعولمة الفقر والدعارة والنفاق، ولتحطيم المنظومات القيمية والأخلاقية عبر الغزو الثقافي مستثمراً التفوق التكنولوجي والتقني عبر الفضائيات والإنترنيت، وعبر التدخل في أغلب السياسات الداخلية، وتشتيت الهويات الوطنية لتشتيت القرار الوطني، والأمركة عبر تثقيل المردودات الورقية الآيلة للسقوط، مثلما افتعلت الأزمة المالية عام 2008 على الإنتاج الحقيقي المبني على طاقات إنتاجية ذات مردود مالي وقيمي وتجميعي، وكل ذلك أرسى الظروف لنشر المشروع الاستلابي التدميري المهيمن عبر عقلية اللا حضارة واللا إنسانية من تزاوج رأس مال مركز وصهيونية حاقدة وغرور غير واقعي منطلقاً لترسيخ مقولة (كل من يخالفني عدو)… وكل السبل متاحة لتكريس قوة المال بعد تجاوز الرأسمالية والإمبريالية لما بعد الإمبريالية التي بدأت تأكل نفسها ضمن صراعات رأسمالية احتكارية واقتصادات وطنية بمواجهة المشروع الأوحد لأظلم وأقهر فكر سيطر عبر العصور، فكر متطرف عنصري متمركز السيطرة، هادف لبث الفوضى في كل مكان، لا هوية له سوى تركيز الأرباح لقلة على حساب الأوطان والإنسان.

 إن الليبرالية التي تغنوا بها لم تكن سوى مرحلة للوصول إلى ما بعدها عبر (دعه يعمل دعه يمر)، و(السوق تنظم نفسها) وصولاً إلى تفتيت الهويات والأوطان للسير وفق منظور عولمة رأس المال المتمركز القوي، وما حصل بيوغسلافيا ومن بعده العراق لم يكن بعيداً عن اقتلاع الفكر الاقتصادي الهادف للعدالة الاجتماعية، وما حصل في سورية من همجية وتآمر بعد تمرير الوصفات القاتلة والخروج عن سياسات اقتصاد السوق الاجتماعي إلا تهيئة لتضليل شعب وقتله، ونهب موارده وسلبها، وقتل عقول أبنائه وكفاءاتهم ليكون درساً لمن يفكر بالمواجهة. ولا أقصد المواجهة بالتنظيرات والخطابات وإنما المواجهة الفعلية عبر برامج تنموية حقيقية لبناء تنمية مستمرة مستقلة متوازنة وهو ما وصلنا إليه قبل وصفاتهم القاتلة وأدواتهم التابعة.

كان الاقتصاد وسيظل الغاية الأساسية لأي صراعات، والأحادية لن تستمر ولكن المقاومة الحقيقية ممكنة عبر برامج اقتصادية تدعو للعدالة، وتكرس دور الحكومات التي تتعاون مع القطاع الخاص الوطني ضمن تشاركية عادلة للبلد المعني. وهي العلاج لمواجهة الوصفات السرطانية القاتلة، وهو ما يراهن عليه كرد جزء من الدين للدم المقدس الذي سال من قديسينا ولم ولن ننساه، وصفاتهم القاتلة قد أصابتنا ولكننا من بلد لا ينضب بشرفائه ووطنيه، وستكون وصفاتنا الوطنية أشفى علاج لسرطاناتهم.

لقد صبرنا وواجهنا وتحدينا وسيكون إعادة البناء عنوان الحصن القادم لسورية الواحدة الموحدة التي ستدرس أساليب مواجهة وصفاتهم وانعكاساتها عبر العصور وفي كل الأزمان، استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي هي العنوان، والمواجهة الاقتصادية

هي لغة المقاومة الحقيقية للخارج وللخارجين عن القرار الوطني من دواعش الداخل.

 

العدد 1140 - 22/01/2025