البيان المالي للحكومة..مخالف للدستور ولا عدالة اجتماعية
(تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة).
هذا النص مقتبس مما ورد في البند الثاني من المادة الثالثة عشرة في دستور الجمهورية العربية السورية، ضمن المبادئ الاقتصادية، وهذا يعني أن الحاجات الأساسية الواردة في الدستور تتطلب الآن معالجة قضية الفقر والبطالة وعدم المهادنة السياسية لكل من يحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية.
وتعبّر الموازنة العامة للدولة عن أهداف الدولة وتطلعاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بذلك فإنها تتجاوز كونها مفهوماً محاسبياً (صرفاً)، تبيِّن الإيرادات والنفقات المستقبلية ومقدار العجز فقط، بل تتعداها لتطول المفهوم الاقتصادي والاجتماعي والأمني والسياسي. ومن الخطورة بمكان تعطيل التنمية وزيادة البطالة وتردّي المستوى المعيشي للسكان، تحت ذريعة الخشية من العجز في الموازنة والرغبة في الحفاظ على توازن محاسبي مقبول.
وبما أن البيان المالي لم يُشِر إلى أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو لم يذكرها بشكل واضح وصريح، مثل معدل النمو الاقتصادي، ومعدلات البطالة المستهدفة، ومعدلات التضخم، واكتفى بذكرها وتكراراها كعبارة وجملة تورد دائماً في البيانات المالية للحكومة، فهذا ما يضعنا كاقتصاديين ويضع أعضاء مجلس الشعب أمام معضلة حقيقية تتمثل في الرقابة على أداء السلطة التنفيذية وتقييمها وفقاً لتحقيقها الأهداف (التي يجب أن تكون معلنة).
من هنا سننطلق في تحليلنا لبعض النقاط الواردة في البيان المالي للحكومة (التي تعكس تجسيداً لسياسة الحكومة وتوجهاتها)، ومدى انسجامها واتساقها مع أولويات الحكومة، كما وردت في بيانها الوزاري.
تحسين المستوى المعيشي لا يتحقق بالتصريحات والشعارات:
من أولويات الحكومة وفقاً لبيانها الوزاري (تنشيط الدورة الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي)، وهو ما يتفق مع ردود السيد وزير المالية على تساؤلات السادة أعضاء مجلس الشعب، وهو ما يجري تكراره عند كل اجتماع أو ظهور إعلامي.
لكن هل حقاً البيان المالي للحكومة يهدف إلى تحقيق هذه الأولوية؟!!
يقول البيان الوزاري للحكومة الحالية إن (السبيل الرئيسي لتفعيل الاقتصاد يكمن في إعادة تدوير العجلة الإنتاجية، والاهتمام بتوفير فرص العمل)، وهذا صحيح، إذ إن من أساسيات تنشيط الاقتصاد هو تدوير عجلة الإنتاج، إلا أن تدوير عجلة الإنتاج بحاجة إلى:
1- زيادة الاستثمارات الحقيقية الفعلية (بشقيه العام والخاص).
2- وزيادة الطلب الكلي الفعال.
بالعودة إلى البيان المالي للحكومة، نجد أن اعتمادات العمليات الاستثمارية قدرت بـ 825 مليار ل. س، بنسبة مقدارها 25.89% من إجمالي اعتمادات الموازنة العامة لعام 2018، وإذا علمنا أنه تم رصد 388.45 مليار ل. س منها كاعتمادات احتياطية للمشاريع الاستثمارية (في حال عدم كفاية الاعتمادات المرصودة لها وارتفاع نسب التنفيذ لديها) و50 مليار ل. س، للإعمار وإعادة تأهيل للمنشآت العامة وللتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمنشآت الخاصة (هذا الرقم ثابت منذ موازنة 2014)، نجد أن مجموع اعتمادات المشاريع الاستثمارية تصبح فقط 386.55 مليار ل. س أي بنسبة 12.13% من إجمالي الاعتمادات.
هذا المعدل يثير القلق لدينا في هذا الوقت، لأن معدل الاستثمار العام يشكل مؤشراً ودلالة يعتمد عليها القطاع الخاص في زيادة استثماراته، ولا يمكن لهذه النسبة أن تشكل حافزاً ومؤشراً جيداً للقطاع الخاص، مما سيؤدي إلى إحجامه عن القيام باستثمارات جديدة. وبما أن النمو الاقتصادي يتحقق من الاستثمارات الجديدة ومن زيادة إنتاجية الاستثمارات القائمة، فإن حجم الاعتمادات المرصودة للاستثمار العام تصبح الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تسهم في النمو الاقتصادي وفي خلق فرص عمل جديدة، وبذلك فإن رفع معدل الأموال المرصودة للاستثمار هي التحدي الحقيقي للحكومة، إذا أرادت تنشيط الدورة الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي.
كما أشرنا فإن تدوير عجلة الإنتاج يتطلب أيضاً (إلى جانب زيادة الاستثمارات الحقيقية) زيادة في الطلب الكلي الفعال، ويتحقق الطلب الكلي الفعال من خلال وجود قوة شرائية للمواطنين، وهذه القوة تتحقق من خلال خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الرواتب والأجور، وانخفاض الأسعار (وهو ما تسميه الحكومة في بيانها الوزاري: توفير السلع والخدمات وبأسعار عادلة). لكن هل يكفي إيجاد 51681 فرصة عمل (في كلا القطاعين الاقتصادي والإداري) عام 2018 باعتمادات لا تتجاوز 14.66% من إجمالي اعتمادات عام 2018، وهي أقل بـ 4818 فرصة عمل مقارنة مع عام 2017، وأيضاً الأقل منذ عشر سنوات؟ فهذه الزيادة تعتبر محدودة ولا تتناسب مع معدلات البطالة المرتفعة ومع عدد الداخلين إلى سوق العمل، مع العلم أن نسبة مخصصات الرواتب والأجور إلى إجمالي الاعتمادات للعام 2018 تعد أيضاً الأقل خلال العشر سنوات السابقة. لذلك لا يشير هذا الرقم إلى وجود أي تأثير فعلي على الطلب الكلي، ويترافق ذلك مع عدم قدرة القطاع الخاص على خلق فرص عمل إضافية بالتزامن مع ارتفاع الأسعار غير المسيطر عليه. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتفاع معدل الإعالة الاقتصادي، فسنجد أن مستوى الرواتب والأجور في حالة يرثى لها. وهذا ما يقودنا إلى التشكيك في نية الحكومة ورغبتها بتحسين الواقع المعيشي وتدوير عجلة الإنتاج.
ولو تأملنا مؤشر أسعار المستهلك (CPI) التي تشير الأرقام الرسمية إلى ارتفاع مستمر، أي أن التضخم يرتفع، وبالتالي تحسين مستوى معيشة المواطن في تراجع، فسنجد أن القيمة الحقيقية للرواتب والأجور والتعويضات تراجعت بنسبة لا تقل عن 40% مقارنة مع عام 2017.
وتحسين القوة الشرائية للمواطن، في ظل عدم زيادة الرواتب والأجور، يتطلب تخفيض المستوى العام للأسعار، الذي يمكن تحقيقه من خلال مكافحة الاحتكار (سواء في الإنتاج أو التجارة) وممارسة وزارة التجارة الداخلة وحماية المستهلك دورها كتاجر ومورّد للسلع.
إن تجميد التوظيف الحكومي وعدم زيادة الرواتب والأجور لا يؤدي فقط إلى مشكلة اقتصادية اسمها البطالة، بل إن ما ينجم عنها من آثار ومشكلات اجتماعية وأمنية وسياسية ستؤثر على أمد الأزمة وعلى أهداف الحكومة في مكافحة الإرهاب والفساد.
وعدم قدرة الحكومة على تحسين الواقع المعيشي للمواطنين يعدّ مخالفة دستورية بشأن الحقوق والحريات، فقد نصّت المادة الأربعون في البند الأول: (العمل حق لكل مواطن وواجب عليه، وتعمل الدولة على توفيره لجميع المواطنين…)، والبند الثاني: (لكل عامل أجر…على أن لا يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيرها).
ونص الدستور واضح ولا يقبل التأويل ولا يحتاج إلى تفسير وشرح، وهذا يستوجب قيام السلطة التشريعية بدورها الفعال في اقتراح التعديلات التي تنسجم وتحقيق ما جاء في الدستور في تلبية متطلبات الحياة المعيشية وتغيرها، وبالتالي ستكون الحكومة ملزمة بأن تنفذ ما ورد في الدستور، وإلى جانب السلطة التشريعية لا بد من رقابة سياسية وشعبية للأداء الحكومي، خاصة في ظل مخالفة دستورية أخرى، وهي عدم عرض الحسابات الختامية على مجلس الشعب عن السنوات 2012 لغاية 2016.
هيكل الإيرادات العامة… لا عدالة اجتماعية…على حساب الموظفين
إذا كان جوهر فلسفة الدعم نابع من مساعدة الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، التي أصبحت تشكل معظم الشعب السوري نتيجة الأوضاع الراهنة، فمن البديهي إذاً أن يقوم الأغنياء ورجال الأعمال والمؤسسات والشركات بدفع الجزء الأكبر من الضرائب، لكي تستخدمها الدولة في تمويل الإنفاق العام، من أجل ضمان حسن توزيع الدخل، وجَعْلِه أكثر عدالة.
لكن البيان المالي للحكومة يشير إلى خلاف ذلك، والأوزان النسبية لتوزع الإيرادات تكشف عن مدى كفاءة الحكومة في تنشيط وتنويع الإيرادات العامة وعن توجهاتها السياسية ورؤاها الاجتماعية، ومن خلالها يمكن تحديد من هي الفئات التي تسهم في توفير الجزء الأعظم من الإيرادات.
1) قُدرت الإيرادات الجارية بمبلغ 1540.11 مليار ل. س، وهي تشكل 64.75% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة مقابل 837.89 مليار ل. س، إيرادات استثمارية بنسبة 35.24% تشكل الفوائض الاقتصادية ما يقارب 75% منها، وإذا بحثنا في تركيبتها بتفصيل أكثر سنجد ما يلي:
– يبلغ إجمالي الضرائب والرسوم 409,5 مليار ل. س، بنسبة 26,59% من إجمالي الإيرادات العامة، تشكل الضرائب المباشرة 29.55% منها، بينما الرسوم المباشرة والضرائب غير المباشرة تتجاوز 70%، وهذا يدل على وجود خلل في الهيكل الضريبي والتحصيل المقدر، فالرسوم والضرائب غير المباشرة تعتبر ضرائب (عمياء) لا تميز بين الغني والفقير، فلا تأخذ بعين الاعتبار العدالة الاجتماعية، وأن شريحة الفقراء والطبقة الوسطى هم من يدفعون القسم الأكبر منها، لأن شريحة الأغنياء التي لا تتجاوز نسبتها 5% من عدد السكان مهما أنفقت لن يكون لمساهمتها أثر يذكر في حجم هذه الضريبة.
– وأيضاً في مكونات الضرائب المباشرة سنجد أن الموظفين (ذوي الدخل المحدود) هم من يدفعون الضرائب ويمولون الخزانة العامة للدولة، إذ تشكل ضريبة الرواتب والأجور بحدود 28% من الضرائب المباشرة، بينما ضريبة الأرباح على الشركات تشكل فقط 35.54% أما ضريبة الدخل المقطوع فلا تتجاوز 9.92% وهي الضريبة التي يدفعها أصحاب المهن الحرة من أطباء ومهندسين وأصحاب ورش)، وبذلك نجد أن الموظفين يدفعون ضرائب أكثر من أصحاب المهن الحرة، وبنسبة تقارب نوعاً ما ما تسهم فيه الشركات ورجال الأعمال في الضرائب.
– بذلك نجد أن ذوي الدخل المحدود والفقراء والطبقة الوسطى يساهمون بما يتجاوز 85% من إجمالي الضرائب والرسوم؛ ما يعني أن الحكومة ما زالت غير راغبة بإشراك أصحاب الأموال والشركات في القيام بدورهم: المساهمة في تمويل الموازنة العامة، وفي تحمل مسؤوليتهم الاجتماعية اتجاه الدولة والمجتمع، وأن شريحة الموظفين وذوي الدخل المحدود والفقراء والطبقة الوسطى هم الممولون الرئيسيون للموازنة، وهذا يعكس عدم العدالة في توزيع الدخل.
2) أما من حيث نسبة الضريبة المباشرة إلى إجمالي الإيرادات العامة فهي لا تتجاوز 8% ، وهذا يعدّ أحد أهم الاختلالات المالية في سورية، ويمثل نقطة ضعف أساسية في المالية العامة، ويعود ذلك إلى حجم التهرب الضريبي الكبير الذي يُفقد الخزينة العامة للدولة مورداً سيادياً أساسياً، وهذا يقتضي إعادة النظر بالنظام الضريبي المطبق، وأن يقوم على أسس عادلة، وتكون الضرائب التصاعدية هي المساهم الأساسي في موارد الدولة بما يحقق مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية (كما ورد في الدستور المادة 18)، فالضريبة ليست مصدر جباية، بل سياسة مهمة وأداة ضرورية لإعادة توزيع الدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية. إن حجم التهرب الضريبي يعدّ مؤشراً إلى ضعف هيبة الدولة ويهدد أمنها الاقتصادي والاجتماعي، لذا يجب التعامل معه بأنه جريمة مخلّة بالشرف (كما حال الدول المتقدمة).
ونحن نعلم أن للحرب تكلفة كبيرة على سورية، لكن هذه التكلفة يجب أن توزع على الناس بشكل يراعي العدالة الاجتماعية (أي يتناسب العبء مع القدرة على التحمل ومراعاة ظروف محدودي الدخل).
3) ما زال لدينا تساؤل وإشارات استفهام حول مدلول بند إيرادات أخرى، التي تبلغ 352.86 مليار ل. س، وتشكل نسبته 23% من الإيرادات الجارية، فإلى ماذا يشير هذا البند؟! وما هي مكوناته؟! خاصة أنه لم يوجد إلا في موازنة 2017 وحالياً في موازنة 2018؟!
تضخيم في عجز الموازنة ولا وجود للدعم
يشير البيان المالي إلى أن الإيرادات العامة تبلغ 2387.57 مليار ل. س، والنفقات العامة 3187 مليار ل. س، أي أن مقدار العجز يقارب 800 مليا ر ل. س، إلا أنه يجب أن نأخذ هذه التقديرات ببعض التحفظ والشك، فإذا ما استثنينا 388.45 مليار ل. س (اعتمادات احتياطية للمشاريع الاستثمارية) وخفضنا حجم الاستثمار غير (المنفذ) ما يقارب 250 مليار ل. س_ وفقاً لتصريحات رئيس لجنة الموازنة في أن وسطي نسبة التنفيذ للمشاريع الاستثمارية 35%_ فسنجد أن حجم العجز لن يتجاوز 170 مليار ل. س، أي بحدود 5% من إجمالي الاعتمادات.
أما مقدار الدعم المرصود في الموازنة والبالغ 657.45 مليار ل. س، فلا يجب النظر إليه كبند مجرد بعيداً عن الفروقات السعرية (الواردة كإيراد ضمن الإيرادات العامة) والتي تبلغ 766.81 مليار ل. س، وهي بذلك أكبر من مقدار الدعم المرصود في الموازنة بمبلغ 100 مليار ل. س، أي أنه لا وجود فعلياً للدعم في الموازنة، بل على العكس نجد أن ارتفاع الأسعار ساهم في تمويل الموازنة، وهذه المساهمة هي أيضاً من حساب المواطنين.
بذلك نجد أن حجم التهرب الضريبي، وعدم تخصيص مبالغ كبيرة للاستثمار، وتخفيض عدد الوظائف مقارنة مع السنوات السابقة، وسحب الدولة يدها من الدعم الاجتماعي، جميعها مؤشرات تؤكد أن الموازنة العامة لعام 2018 هي موازنة انكماشية، وتنسجم مع شروط المؤسسات الدولية في الحد من دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لذا نحن بحاجة إلى إجراء مراجعة حقيقية لبنود الموازنة للعام القادم، وهذا يتطلب وجود رؤية اجتماعية وسياسية (وليست محاسبية) لدى كل من الحكومة ومجلس الشعب، رؤية تنحاز للعقلانية الاقتصادية، ولمبادئ التنمية والعدالة الاجتماعية. وينبغي التذكير بأن الدستور وضع لكي يتحقق احترامه وتنفيذه، وليس تجاهله على هذا النحو، سواء من خلال الحكومة أو من خلال مجلس الشعب.