دمى مقطّعة الأوصال.. خراب روح الطفل السوري..

ماذا تقول الصاعقة للشجرة قبل أن تحرقها؟ ماذا يقول القدر للإنسان قبل أن يدمّره؟ كيف نجيب عن أسئلة لا يحقّ لنا أن نسألها لأنها من أسرار الحياة العصية على الإفشاء؟ لماذا تتقهقر الإجابات عند منعطفات المجهول..؟ هنالك سؤال في طلاسم الحرب السورية التي ليس كمثلها حرب، ولكن لن نعتبره سؤالاً خارقاً لأسرار الطبيعة، بل هو سؤال شبيه بسرّ الصاعقة التي أحرقت الشجرة للتو، فهل نقدر أن نبرّر فعلتها إلا باعتباره قانوناً من قوانين الطبيعة؟ كيف نفهم إحراق أرواح آلاف من الأطفال السوريين جسدياً ونفسياً؟ وكذلك التعدي على ربيعهم وإباحته بالدم والخراب والقتل والتشويه وتبرير كل ذلك بأنه قانون من قوانين الحرب وبأن الغاية تبرر الوسيلة..؟

متى أصبح تخريب الأرواح الصغيرة من قوانين الحروب؟ هل من مجيب؟ ألا يكفي الطفل السوري تشويه أيامه بالخوف والرعب من الرصاص وأصوات المدافع ومشاهدة الدماء وإجباره على العيش يتيماً فقيراً عارياً حتى من أبويه؟ ألا يكفيه دمار منزله وفقدان ألعابه وخسارة أصدقائه وحارات اللهو واللعب والذكريات الجميلة وحضن الأم الدافئ وطاولة الطعام المليئة بخيرات الوطن والحلوى اللذيذة التي يأتي بها الوالد بعد عودته من عمله، والسرير الأثير الدافئ بجانب موقدة الشتاء البارد؟أين كل هذا من حياة الطفل السوري الذي أُجبر أن يترك أحلامه وينسف بذور ربيعه كي يطبق قانون الحروب. صحيح أن الحروب في كل مكان من العالم والأطفال من أهم ضحاياها، ولكن هل شهد طفل في العالم ما شهده الطفل السوري؟

والحديث هنا عن تشويه الزهور وتحويلها إلى مشروع وحش؟ هل يوجد مكان في العالم كله يجبر فيه الطفل السوري الواقع تحت سيطرة ذئاب ووحوش بشرية على قطع رأس إنسان بريء كما شهدنا في حمص عندما قطع طفل لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره رأس ضابط في الجيش السوري الأبي؟ هل شهدت السماء والأرض والملائكة والجن إجراماً أكبر من إجرام أب في الرقة المحتلة من عصابات داعش يمسك ابنه ذا الشهور التسعة فيجعله يدحرج رأساً مقطوعاً للتو بقدميه الصغيرتين وبحضور عشرات من الأطفال ينظرون إلى المشهد ويضحكون..؟! كيف يحاكمون بريئاً فيقطعون رأسه أمام المئات من الأطفال الذين جاؤوا لمشاهدة حكم الله على أيدي ضباع متعطشة للدماء.. والله منهم براء؟؟..الحدث وقع والتشويه حاصل والضرر كبير ولا هروب منه، فهو جرح أطفال وجرح وطن فأين المفر؟

قد يقول قائل: ستنتهي هذه الحرب الملعونة يوماً وسنلتفت لإعادة الإعمار بعد خراب طال حتى الأرواح، أما المنطق الصحيح والقويم والسليم فيقول: اتركوا إعمار الحجر والتفتوا إلى ترميم جروح البشر، فلا فائدة ترجى من تأمين المساكن لأجساد وأرواح سجينة فكر يهبط بها إلى مصاف الوحوش.. التفتوا أولاً وأخيراً إلى المناطق التي كانت تحت سيطرة الفكر المتطرف الذي يبيح القتل والتشويه ولا توفروا جهداً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وبخطوات علمية ونفسية مدروسة في سبيل احتواء هذا الطفل الذي بُرمج عقله خلال سنوات الحرب
على الكره والبغض والقتل، وشبع من منظر الدماء والرؤوس المقطوعة حتى بات الأمر تسلية ودعابة.

أهم الخطوات هي الخطوات الأولى وهي مهمة الدولة وبمساعدة المنظمات المحلية التي تعنى بالطفولة، والمؤسسات الخيرية، والمتطوعين الشرفاء من الشباب، وليتعاونوا بأكملهم على التقرب من الطفل المشوه نفسياً واكتساب ثقته ومحبته وتقديم كل العون النفسي ليتجاوز ذكرياته الأليمة ويحكي عن همومه ومشاعره، ولا نستثني أية محاولة للدخول إلى أعماقه وتعرية فكره وإظهار الجريمة في هذا الفكر وإثبات نقيضها بحلو الكلام وبحار الثقة وباستشهاد من حكايا الأنبياء والصالحين الرحماء الذين كانوا يصارعون من أجل الحق ويستبسلون من أجل أن يعم السلام وتنتهي الأحقاد.. قد تكون المهمة صعبة ولكن بالعزم والإصرار ومحاولة إنقاذ أرواح بريئة ستكون أسهل لأن الدافع هو الحب، ومتى كان الدافع حباً ستتحطم كل حجارة المستحيلات.. ثم يأتي دور فتح أبواب الحياة مجدداً أمام الطفل الذي اجتاز ولو نفسياً وقع الصدمات المؤلمة على ذاكرته.. وليأتي ثانياً بعد ترميم نفسه محاولة دفعه نحو خوض الحياة التي يجب أن يحياها كل طفل في عمره، وذلك بعودته إلى مدرسته وكتبه وأصدقائه، ولا مانع من تكثيف حضور المرشدين النفسيين الذين سيسهلون مهمة عودة اندماجه الجديدة في الحياة الجديدة التي نهض بها للتو من تحت الرماد.. وأيضاً تزويد كل مدرسة بقاعة صغيرة شبيهة بقاعة السينما وعرض أفلام هادفة تحث على الحب والعيش المشترك ونبذ الفكر المتطرف وتقبّل الآخر، فنحن في هذه الحياة ما خلقنا لنحاسب بعضنا ولا لنكره بعضنا بل لنعيش بسلام في وطن لا يستحق إلا السلام.. الرهان هنا على تلك المحاولات التي ستعيد إعمار نفس الطفل السوري ليكبر ويساهم هو بإعادة إعمار الوطن الذي خُرّب بأيادي التطرف والجهل وخفافيش الحروب والظلام، والكلمة الفصل هي لهؤلاء الأطفال فعودتهم بنفوس سليمة إلى الوطن تعني عودة الوطن بأسره لنا جميعاً…

العدد 1140 - 22/01/2025