عيد الكرامة الوطنية والحرية
تحلّ في 17 نيسان من هذا العام الذكرى السبعون لجلاء آخر جندي فرنسي عن سورية، هذه الذكرى الغالية والعزيزة على قلب كل مواطن سوري.
كثيرة هي التضحيات التي قدمها الشعب خلال نحو ثلاثين عاماً على مذبح حريته، وكبيرة كانت الضريبة التي دفعها من أجل نيل استقلاله وكرامته، وغزيرة هي دموع النساء والأمهات التي ذُرفت على الآباء والإخوة والأزواج والأبناء والبنات الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن.. وكم من دماء روت الأرض السورية حتى ليمكن القول إنه لا توجد بقعة من بقاعها إلا وقد رويت بدماء الشهداء.
لم تهدأ الأرض السورية تحت أقدام الغزاة، ولم تنطفئ شرارة الكفاح الملتهبة خلال أعوام الاحتلال، ولا جمرة المقاومة التي كانت تستعر بصورة متصاعدة، بمقدار ما كانت تتصاعد وحشية الاحتلال واضطهاده وعنفه.. لم يركع الشعب السوري أبداً أمام ضراوة الاحتلال وقسوته، التي أراد بها كسر شوكته وإذلاله وإخضاعه وتحويله إلى شعب مستسلم.. ولقد قدم الشعب نماذج كبيرة خرجت منه، وسطّرت صفحات خالدة من البطولة والاستعداد للتضحية بالحياة إذا اقتضى الأمر ذلك.
إن يوسف العظمة، ابن دمشق ووزير دفاعها، كان يعلم أنه متوجّه إلى الموت عندما سار هو ومجموعة من متطوعيه الأبطال كي يقفوا في وجه الجحافل الفرنسية المتجهة إلى دمشق، لأنه أبى أن يدخل المحتلون مدينته دون مقاومة. وكان فلاحو الساحل يعلمون أن العدو يتفوق عليهم بالجنود والعتاد عندما انتفضوا في وجهه، يتقدمهم الشيخ صالح العلي. وكان إبراهيم هنانو قائد الثورة في الشمال السوري يعلم هو ومجاهدوه كم من التضحيات سيقدمون، عندما أعلنوا انتفاضتهم المسلحة ضد الغزاة. وفي الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، التي عمّت جميع أنحاء البلاد ومدنها، من السويداء إلى حوران إلى العاصمة دمشق وغوطتها، وإلى حمص وحماة وحلب والجزيرة، كان المنتفضون لا يأبهون بكم من الشهداء سيقدمون، وكم من الآلام والمعاناة ستقف في طريقهم، إلا أن الكرامة الوطنية لديهم كانت أقوى من كل ذلك.
لقد دخل في سجل هذا الكفاح الباسل أبطال انبثقوا من أعماق الشعب، مثل حسن الخراط والشيخ محمد الأشمر وغيرهم الكثيرون، وسيبقى إلى الأبد في ذاكرة الأجيال الإضراب الستيني في دمشق، والمظاهرات الطلابية التي لم تهدأ أبداً في البلاد طيلة الاحتلال، وضرب دمشق والبرلمان السوري بالمدافع. لقد استطاع السوريون أن يصونوا وحدة بلادهم، وأن يجهضوا محاولة الفرنسيين تقسيم البلاد إلى كانتونات.. وأخيراً كان لابد لهذا النضال وهذه التضحيات أن تعطي ثمارها، واضطر الفرنسيون بفضل ذلك، وبفضل دعم الاتحاد السوفيتي آنذاك، أن يخرجوا من البلاد.
كانت سورية أول بلد يحصل على استقلاله السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أن مهام جديدة وضعت أمامه لا تقل صعوبة عن مهامه السابقة.
لقد ترك الفرنسيون البلاد بحالة اقتصادية صعبة، وكان على السوريين لا أن يعززوا استقلالهم الوطني فقط، وإنما أن يعززوا أيضاً استقلالهم الاقتصادي، وأن يصونوا حرياتهم السياسية، وأن يبنوا مجتمعاً مدنياً، قادراً على تحقيق هذه المهام. وحققوا على هذا الطريق العديد من المنجزات، بيد أن عوائق كبيرة وقفت أمام ذلك، عوائق داخلية مرتبطة بنشاط قوى التخلف التي كانت تسعى لجرّ سورية إلى الوراء، وعدم تبلور ووضوح الطريق إلى بناء المجتمع المدني، ونقص الكوادر الفنية، وتخلف البنى الاقتصادية والاجتماعية، وعوائق خارجية تكمن في المحاولات الضارية من قبل استعمار الأمس واليوم، التي كانت تجري من أجل إيقاف التطور الوطني المدني في البلاد، وجرّها إلى الأحلاف وإخضاعها وجعلها تابعة، تحقيقاً للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية للاستعمارين القدماء والجدد.
إن هذه المهام تبقى حيوية وماثلة إلى الآن أمام الشعب السوري وجميع قواه الوطنية، ويجب أن تكون هذه الذكرى العظيمة حافزاً لجميع السوريين على رصّ الصفوف، لهزيمة الغزاة وإحياء التقاليد الوطنية التي ناضل من أجلها الآباء والأجداد، والاستفادة من الدروس التي قدمتها مأثرة الجلاء، وأهمها الاعتماد على الجماهير الشعبية والثقة بها، من أجل إجهاض المحاولات الرامية إلى تقسيم البلاد من جديد، ومن أجل بناء سورية الجديدة، سورية الشراكة الوطنية، سورية المواطنة، الخالية من أي تمييز على أساس سياسي أو ديني أو قومي، سورية التي يجب أن تكون نموذجاً يحتذى به، هذا ما يجب أن تكرسه الذكرى السبعون لعيد الجلاء.