ألماس العقول وفحمها…حوار الأرواح والأفكار
تحاور الزمن فيما مضى مع الفحم فكانت النتيجة أن خلق الألماس، وتحاور البحر مع الصدَفة فتمخض عن ذاك الحوار اللؤلؤ، ناشدت الأرض السماء يوماً فكان نتيجة حوارهما ونقاشهما سحابة مليئة بالخيرات أحيت بها الأرض، زخرت الأرض بالجثث المكدسة منذ غابر الزمان فكان حوار الأرض مع التراب وديدانه وكان بناء فأتت النتيجة على شكل نفط خام يعود بالنفع على الإنسان…
هو الحوار الذي يؤتي ثمره ويعود نفعه على كل البشر، هو لغة الخليقة منذ أن عرف الإنسان أن له لساناً يستخدم لغرض أسمى من الحاجات المادية، إنه غرض الكلام والحوار مع الآخر كي تترجم الأفكار وتولد الكلمات من رحم العقل الزاخر بالكنوز التي تريد أن تتحرر في سماء الحياة..
يقال: في الشدة يقاس الصبر، وفي المواقف يقاس البشر، وفي النقاش يقاس العقل.. فمقياس عقول البشر يكون أثناء النقاش، فإن استطاع المحاور ضبط أعصابه واستيعاب الطرف الثاني أثناء الحوار فهنا تكون الغلبة له، أما من غلب لسانه وغيب عقله فبدأ بالصراخ والشتائم والانحراف عن مسارات الحوار فهنيئاً له وقتئذٍ صفة الجاهل والمتعصب، والغلبة عليه حتى لو كان من أصحاب الشهادات العليا..
حاجة الإنسان إلى الحوار حاجة روحية ونفسية في آن معاً، فأبواق النفس ونبضات القلب بحاجة إلى من يسمعها، وكذلك العقل ومخاضه الفكري وأجنته التي تريد أن تولد وتريد أن تنبعث من سكونها ولا يتحقق ذلك إلا بالحوار، فحوار الأدباء والشعراء والكتاب فيما بينهم يولّد تلك الأفكار المختبئة والتي تتفجر على وقع النقاشات، فكم من أديب غيرت مسار حياته فكرة ناقشها معه أبسط الناس، وكم من كاتب حاور بعض الأصدقاء واستنبط من حديثهم فكرة لعمل درامي غير مسار حياته، وكم من عالم استفاد من تجربة فلاح فحاوره عنها ليخرج علينا بأبحاث تملأ الكتب وتعود بالنفع على البشرية بأكملها..
الحوار مع الآخر هو حاجة قبل أن يكون هدفاً، نحتاج إلى البوح بمكنونات الصدر والقلب والروح، فبوح العشاق مع أنفسهم وحواراتهم مع حبيباتهم يفضي إلى القصائد الخالدة والرائعة، وحوار الأم مع أولادها وتهذيبها لسلوكهم سيعمل على صقل شخصياتهم وتفتح براعمهم للحياة، وحوار المعلمة مع طلابها الذي قد يكون توبيخاً لتقصيرهم سيؤدي حتماً إلى مضاعفة الجهود و مواصلة الدرب في التحصيل العلمي..
أما من اتخذ الحوار لهواً وعبثاً، ومدخلاً ومخرجاً لتمرير نوايا خبيثة، وأرزاء وأنواء سوداوية، فبئس الناس هو.. ويتبادر إلى الأذهان فوراً المذيع الفتنوي فيصل القاسم الذي يجمع في برنامجه (الاتجاه المعاكس) ضيفين لهما أفكار متناقضة فتبدأ وقتئذٍ حفلة الشياطين في السب والذم والقدح، والهدف كل الهدف أن يحدث التجريح والاقتتال والضرب بالأيادي ومغادرة الاستوديو. فبئس المذيع وقتئذٍ وبئس الحوار..
أما محاورة الأعداء فهي نوع من الذكاء وإعطاء الفرصة للنفوس كي تهدأ وتخبو آثار الحقد فيها، وهو ما نراه متجلياً على طاولة الدولة السورية التي شرعت أبوابها لمحاورة المعارضة المسلحة خارجاً وداخلاً، ومازالت وفود الدولة تفتح طاولاتها للحوار مع المسلحين وإعطائهم الفرصة لوأد نار الفتنة وعودة البلد إلى سابق عهده.. وقد لاحت في الأفق أحياناً نتائج تلك السياسات الحكيمة والحوارات البناءة التي أفضت إلى تسويات سلم المسلحون أنفسهم من خلالها إلى الدولة وجرى تسوية أوضاعهم على أثر ذلك..
لا نريد لحواراتنا أن تفضي إلى الفراغ أو إلى الطرق المسدودة كما في رواية (الإخوة الأعداء) لنيكوس كازانتزاكي عندما حار بطل الرواية الأب ياناروس وعجز عن مقاربة وجهات النظر بين الإخوة المتناحرين في الحرب الأهلية القائمة آنذاك، فقال كلمته المشهورة بعد يأسه منهم: (إنني ذاهب أشكو هذا العالم إلى الله!) فلنتقبّل وجهات نظر الآخرين ولنستمع إلى حواراتهم ونتاج عقولهم ولنصل إلى نقطة التوافق حتى لو اضطر بعضنا إلى التنازل قليلاً عن أفكاره.. لا لسد الأبواب أمام المتحاورين بل فتحها ومناقشة كل فكرة تفضي إلى السلام…