كي لا ننسى…هزيم محمود مناضل فلاحي بامتياز

 كانت قرية بشراييل، التي تقع إلى الشرق من صافيتا، ولا تبعد عنها إلا قليلاً، محط أنظار البلاد بأسرها، في أواخر أربعينيات القرن الماضي وأوائل خمسينياته، ولا يعود السبب الحقيقي في ذلك إلى كبر عدد سكانها مثلاً، ولا إلى نسبة المتعلمين وعدد الطلاب والأطباء والمحامين والمهندسين فيها أبداً.. كان السبب الحقيقي يكمن في أن هذه القرية كانت من أوائل القرى السورية التي تمردت على الإقطاع، وأخذت الحركة الفلاحية فيها طابعاً جماهيرياً.. كان له تأثير واسع في البداية على المحيط القريب، وامتد بعد ذلك ليصل تأثيره إلى أبعد من ذلك، إلى الريف السوري بأسره الذي كان يئن من ظلم الإقطاعيين وجورهم وقهرهم وإذلالهم للفلاحين في القرى التي كانوا يملكونها.

لقد تحولت بشراييل في ذلك الوقت إلى نموذج يجب أن يحتذى في مقارعة هذه الطبقة التي لم تعد تتلاءم مع الحياة، ومضادة لمنطقها.. لم تكن الحركة الفلاحية المتعاظمة في هذه القرية نتاج حراك عفوي، بل كانت نتاجاً لتغلغل الأفكار الاشتراكية إلى عقول عدد من الفلاحين الشباب في القرية.

كان الفلاح الشاب هزيم محمود هو الأول الذي ذهب لملاقاة هذه الأفكار، بتأثير أقرباء له في الريف المجاور، كانوا قد سبقوه في الالتحاق بهذه الحركة الجديدة على المنطقة، التي تعلن وقوفها مباشرة إلى جانب الإنسان الكادح، وإلى جانب تحقيق إنسانيته كاملاً، ويلحق بهزيم محمود عدد آخر من الشباب مثل كامل عيسى وحبيب علي شريف وغيرهما، ويبدأ عدد أعضاء الحزب الشيوعي في هذه القرية بالازدياد تدريجياً.

وفي عام 1950 أعلنوا عن أنفسهم بوضوح في أول معركة طبقية جرت بين الفلاحين الذين لعب الشيوعيون الدور الرئيس في قيادتهم، ضد الإقطاعيين في القرية الذين حاولوا إجبارهم على زراعة أراض لهم دون أي مقابل.. وقد كان لهزيم محمود الدور القيادي في هذا التمرد الأول.. وتقرر السلطات طرد قيادة هذا التمرد من القرية، بعد التحقيقات التي أجرتها، فيجري تحدي هذا القرار، ويرفض الفلاحون الثلاثة التنفيذ، وتتضامن القرية بكاملها معهم، وتمنع تنفيذه، فتقوم السلطات باقتحام القرية وتعتقل أكثر من خمسين فلاحاً بينهم هزيم.. إلا أن نساء القرية استطعن تخليص المعتقلين من أيدي الشرطة، بيد أن مالك هذه القرية لم ييأس، وأخذ يعمل على تفتيت التضامن الذي نشأ بين الفلاحين، واستطاع عام 1951 أن يحقق بعض النجاح في هذا المجال. ويعتقل هزيم مع بعض رفاقه بتهمة التحرش بعائلة الإقطاعي، ويزج به في السجن، وبقي فيه أكثر من ثلاثة أشهر.. وكان لتضامن نساء القرية واحتجاجاتهم وتجمهرهن يومياً أمام أبواب السجن في طرطوس دور في إطلاق سراح المعتقلين.. وقد انتقم الإقطاعيون من أهالي القرية، فصادروا محاصيل الفلاحين..

قاوم الفلاحون بقيادة منظمة الحزب الشيوعي هناك، وأرسلوا العرائض والبرقيات إلى المسؤولين في الحكومة، وإلى رئيس الجمهورية، مطالبين بإعادة الحقوق إليهم، إلا أن الإقطاع وأزلامه أقاموا الدعاوى على الفلاحين بتهمة سرقة المحاصيل الزراعية، فاعتقل الكثير من الفلاحين، وزج بهم في السجن، إلا أن ذلك لم يثن الفلاحين عن الاستمرار في نضالهم من أجل حقوقهم، وكان هزيم محمود في طليعتهم.. ويعتقل للمرة الثالثة بتهمة القيام بانقلاب على السلطة، ويزج به في السجن، بداية في صافيتا، وينقل بعد ذلك إلى حلب، وبعدها إلى سجن اللاذقية وبقي هناك أكثر من ثمانية أشهر، ثم أطلق سراحه بعد ذلك لعدم وجود الأدلة.

في منتصف الخمسينيات يخوض هزيم محمود مع منظمة الحزب في القرية نضالاً باسلاً ضد إرهاب الإقطاعي، الذي كان يستعين بأزلامه، وبالدرك على الاعتداء على فلاحي القرية، وقد استأجر المرتزقة لأجل ذلك، بيد أن الفلاحين الذين قد تمرسوا بالنضال، امتنعوا عن تقديم المحاصيل إلى الإقطاعي، واستولوا على قصر الإقطاعي، وحولوه إلى مدرسة ابتدائية.. وقاموا بعد ذلك بتوزيع الأرض فيما بينهم بدقة وعدالة أدت إلى ازدياد تلاحم الفلاحين معاً، وأقيمت الدعاوى بين الإقطاعي والفلاحين، وأقرت المحكمة تعيين حراس قضائيين في القرية، إلا أن الفلاحين لم يستسلموا وامتنعوا عن تسليم المحصول.

ويتم اعتقال عدد كبير من الفلاحين يصل إلى أكثر من 80 فلاحاً، وتجري حملة تضامن واسعة مع أهالي بشراييل في الكثير من المناطق السورية، ويكلل أخيراً انتصار الفلاحين في هذه القرية من خلال الحكم الذي قضى بتثبيت ملكية عقارات بشراييل لفلاحيها، وكان لهذا الانتصار صدى واسع جداً في المنطقة، حفز فلاحيها لخوض المعارض ضد الإقطاعيين، الذين عملوا قدر استطاعتهم على إيقاف حكم التاريخ على هذه الطبقة التي ولّى زمنها.

لقد كان هزيم في لب هذا الصراع الفلاحي القاسي، وتحمل من أجل ذلك الاضطهاد والتعذيب والجوع، إلا أنه كان يزداد إيماناً بعدالة قضيته.

لقد انطبقت عليه هذه الكلمات: مناضل فلاحي بامتياز، وعاش حياته إلى جانب الفقراء والكادحين حتى آخر لحظة من حياته.

لن تنسى الأجيال الشابة من أبناء وبنات أولئك الفلاحين الذين ناضلوا ضد الإقطاع، مآثر آبائهم وأجدادهم، وعلى الأخص مآثر المناضل هزيم محمود التي لن تنسى.

العدد 1140 - 22/01/2025