كي لا ننسى…مصطفى أمين هلال ابن الحزب الشيوعي وشهيده المجهول
مصطفى أمين هلال، شيوعي قديم، أحد شهداء الحزب المجهولين، لم تتحدث عنه الصحافة، ولم يتردد اسمه كثيراً بين الرفاق والأصدقاء، وقلائل جداً هم الذين اهتموا بحياة هذا الإنسان البسيط، المنبثق من أعماق الشعب والمناضل الحقيقي من أجل مستقبل مشرق لكادحي سورية، الذين عانوا الكثير من جور المستعمرين والمستثمرين.
ولد الشهيد في بلدة سلقين التابعة لمحافظة إدلب عام ،1928 في عائلة شعبية كادحة عرفت مرارة الحرمان والفقر، وعانت كثيراً من جور الإقطاعيين والملاكين الكبار الذين كانوا يهيمنون على القسم الأكبر من أراضي هذه البلدة الخصبة.. وخبرت أساليبهم واستغلالهم لكدح الفلاحين المضني. في كنف هذه العائلة الكادحة، نشأ هذا المناضل، ومنذ نعومة أظفاره تحسس بالظلم الذي كان يحيط به وبأمثاله من أبناء العوائل الأخرى الكادحة، وحلم بعالم أكثر عدالة، وكان يطرح على نفسه السؤال العميق الذي كان يشغل لا باله فقط، وإنما أيضاً كان يشغل بال الكثير من أترابه: لماذا العالم ظالم بهذا الشكل؟ ولماذا تغيب العدالة؟ لماذا يصنع البسطاء الحياة، ويتنعم آخرون بثمارها؟
لم يكن يستطيع في ذلك الوقت.
أن يجيب عن هذه الأسئلة، فالإجابة جاءت فيما بعد. يتعلم الشهيد في ابتدائية المدرسة البدائية آنذاك، بيد أنه لم يستطع متابعة دراسته.
لقد دفعته مدرسة الحياة ورهافة حسه الإنساني، وكرهه العميق للظلم، أن ينضم إلى صفوف منظمة الحزب الشيوعي الناشطة حديثاً في بلدته أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، والتي ساعدته كثيراً في الإجابة عن الأسئلة التي كان يطرحها.. وقد أصبح عضواً نشيطاً فيها، وبعد انهيار دكتاتورية أديب الشيشكلي أصبح عضواً في فرعية المنظمة ومناضلاً نشيطاً في صفوفها، ومشاركاً في كل معاركها الطبقية.
في نهاية عام 1958 تصطبغ سماء سورية بغيوم سوداء عاصفة، ويكفهر الجو السياسي ويلوح في الأفق نذير خطر يهدد منجزات الشعب السوري الديمقراطية التي لم تكن قد ترسخت بعد.. ويصبح هذا الخطر واقعاً..
بداية عام 1959 يتعرض الحزب الشيوعي السوري والقوى الديمقراطية الأخرى لحملة شرسة واسعة، وتقوم أجهزة المباحث والأمن بملاحقة الآلاف من المناضلين واعتقالهم، وكان مصطفى في جملة الملاحقين، لكنه استطاع تجنب الاعتقال، ولاذ بالشعاب والمغاور والجبال، متوارياً عن أعين الأجهزة الأمنية خلال عام بأكمله، وموزعاً نشرات الحزب وبياناته التي كانت تؤكد أن قيم الحرية والديمقراطية ستبقى شامخة في سورية رغم كل الصعاب، ومعانياً من آلام البرد والحرمان والجوع والقلق على أسرته وأطفاله.
لم يستسلم أبداً رغم كل ذلك بيد أن لطاقة الجسد حدوداً وقدرة على التحمل، فيتعرض للمرض ويحاول التداوي سراً، إلا أن المرض كان يتفاقم، ولم تعد تنفع معه المعالجات العرضية التي كان يقوم بها سراً.. كان عليه الذهاب إلى حلب، وقد استطاع الوصول إليها في مراحل مرضه الأخيرة، حين لم تعد تجدي المعالجة، فكبده المتضخم لم يكن قابلاً للشفاء. لقد علم أن حالته المرضية ميؤوساً منها، فعاد علناً إلى مسقط رأسه دون خوف أو هلع، وعندما علمت الأجهزة أن مصطفى قد أصبح في منزله، أسرعت دون تأخر لاعتقاله، لكنها عندما رأته على فراش الموت، لم تستطع أن تفعل شيئاً. لقد رفضت أن يموت لديها، خوفاً من الضجة التي يحدثها ذلك، فتركته بين أهله وأسرته.. وفي 11 كانون الأول عام 1959 يفارق الحياة مخلفاً زوجة وطفلين.
غاب مصطفى جسداً، بيد أنه في حياته القصيرة، كانت جميلة كقصيدة شعرية تتغنى بالحياة الأفضل لكادحي البلاد، معبرة عن الثقة بأن المستقبل سيكون مشرقاً ووضاء، على الأطفال الذين لم يولدوا بعد.
لقد استشهد مصطفى من أجل ذلك المستقبل، غارساً في تراب وطنه بذوره التي ستنمو وستزدهر، وستصبح وارفة في يوم ما.