لمحات من تاريخ الحركة النسائية السورية قبل الاستقلال وبعده (*)
نهضت المرأة السورية مع النهوض الوطني البرجوازي في المنطقة العربية ضد الظلم والاستبداد الإقطاعي العثماني، وسجل لها التاريخ صفحات خالدة في نضالها ضد الاستعمار..وقد أدى نشاط الجمعيات النسائية في سورية قبل الاستقلال وبعده، وكذلك نشاط النوادي الأدبية والثقافية في عدد من المدن السورية دوراً مؤثراً في حياة المرأة.
وقد اكتسب نضال المرأة طابع العمل الجماعي تدريجياً واختلط النشاط العام في بداياته بالكفاح الوطني، وبرز العديد من المناضلات ضد الاحتلال، منهن عادلة بيهم الجزائري وفاطمة المحمصاني وماريا مراش من حلب، الشابة التي كتبت ونظمت الشعر الوطني الحماسي ضد الاحتلال، وماري عجمي التي أسست النادي النسائي العربي وأصدرت أول مجلة نسائية لها طابع سياسي (العروس).
الجمعيات النسائية في مرحلة ما قل الاستقلال
في السنوات الصعبة التي مرت على البلاد اندفع عدد من النساء للقيام بنشاطات فيها خير البلاد وخلاصها من القهر، مدركات أن العمل المجدي لا يكون إلا بتجميع القوى وتنظيمها وتعاونها، فشكلت جمعيات ولجان نسائية منها: جمعية (يقظة الفتاة العربية) عام ،1915 وجمعية (الأمور الخيرية)، كما أُنشئت جمعية العمل عام 1916 هدفها تشغيل المرأة، وقد افتتحت داراً للصناعة ضمت 1800 عاملة، وفي عام 1918 تأسست جمعية (نور الفيحاء)، ولما حاول الفرنسيون اجتياح سورية تشكلت جمعية النجمة الحمراء النسائية في 7 تموز عام 1920 وجمعية (نقطة الحليب)، وانتشرت في حينه جمعيات كثيرة لها طابع خيري، وهذه التجمعات النسائية أغنت وعمقت التجربة النضالية اللاحقة للمرأة السورية.
وفي عامَي 1919-1920 اعترى الجمعيات النسائية ما اعتراها من ركود ولم يكتب لمعظمها استمرار النشاط، وحجبت طاقات المرأة عن المساهمة في التطور نتيجة الحرب العالمية الأولى، ورغم ذلك فقد استمر النضال، إذ شهدت دمشق عام 1918 أول مظاهرة نسائية كبيرة تهتف بسقوط الاحتلال التركي، وفي أعوام الثلاثينيات تأسست جمعية (يقظة المرأة الشابة) عام ،1927 وجمعية (خريجات دار المعلمات) عام 1929.
وكان من أبرز رائدات الحركة النسائية السورية في هذه المرحلة: أسماء الخوري ونازك العابد وسعاد مردم بك وسنية الأيوبي وثريا الحافظ وخيرية ماميش ومسرة داغستاني ومنيرة المحايري ويسر ظبيان وبلقيس كردعلي وزهراء اليوسف، ألفت الأدلبي، ريما كردعلي، جيهان موصلي، ملك دياب، زينب الحكيم وغيرهن كثيرات.
وفي الحديث عن نساء النهضة الرائدات الأوائل فلتسامحني تلك النسوة المنارات في اختصار تجربتهن وغياب الحديث عن إنجازاتهن لضيق الوقت المخصص، فكل واحدة منهن تحتاج إلى ملفات كبيرة كي نحيط بتجربتهن الرائدة.
ويمكن القول إن هذه الجمعيات لعبت دوراً مؤثراً في حياة المرأة السورية، وقد اكتسب نضالها طابع العمل الجماعي تدريجياً واختلط النشاط العام في بداياته بالكفاح الوطني التحرري، وقد استطاعت أن تحقق بعض المكاسب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمرأة الجديرة بالاهتمام. ويبقى الحدثان الأهم في تاريخ نضال المرأة السورية قبل الاستقلال هما: مشاركتها في معركة ميسلون الخالدة، وفي الإضراب الخمسيني عام 1936.
فمن معركة ميسلون الخالدة إلى الثورات التي اندلعت في كل ساحات الوطن، من ثورة جبال اللاذقية وطرطوس وجبل الزاوية، إلى ثورات شعبنا في حمص وحماة وحلب وغوطتي دمشق وجبل العرب والقلمون، قدم الشهداء والشهيدات أمثولة رائعة في الدفاع عن الوطن والتصدي للمستعمرين.
وفي مدينة دمشق وغوطتها برزت أسماء مناضلات لعبن دوراً هاماً في الثورة السورية وأعمال المقاومة، منهن: نازك العابد وزوجة عبد الرحمن الشهبندر وسارة المؤيد العظم وزهرة العابد وسنية الأيوبي وغيرهن كثيرات. ولن ينسى التاريخ الشيخة حبابة زوجة الشيخ صالح العلي ورفيقاتها الثائرات. ومن حلب زكية هنانو التي وضعت كل ما تملكه من مال لدعم الثوار، والعديد من النساء من آل الجابري والسباعي والكيالي.
وقد لعبت سيدات كثيرات من حماة دوراً هاماً في المقاومة، وقد قدمت حمص نماذج بطولية رائعة لنساء كثيرات.وفي جبل العرب الأشم سجلت المرأة بطولات هامة مع رجالات الثورة السورية وصانعي أمجادها الذين حملوا الوطن في قلوبهم وفي أفعالهم. وفي الإضراب الخمسيني من 19/1 إلى 8/3/1936 لعبت النساء دوراً بارزاً، فاشتركن في المظاهرات على نطاق واسع، يرفعن الشعارات المعادية للاستعمار ويلقين الخطب الحماسية المشجعة.
ولم يتوقف دور المرأة عند هذا الحد، بل عملت أيضاً من خلال الأدب على تخليد الثورة وتخليد أبطالها المغمورين من أبناء الشعب العاديين، فأضاءت جوانب جديدة من الثورة، نذكر من الأديبات: ألفة الأدلبي التي كانت من أشهر من كتب من النساء في حينه عن الثورة السورية. وفي مرحلة لاحقة برزت الأديبة والكاتبة الروائية د. ناديت خوست، وقد أنجزت الكثير من المؤلفات الرائعة: (حب في بلاد الشام) ورواية (درب الآلام) كما قدمت في مؤلفاتها نماذج نسائية ساهمت في النضال الوطني والاجتماعي والإنساني.
الحركة النسائية في سورية ما بعد الاستقلال والحرب العالمية الثانية
في الثامن والعشرين من تشرين الثاني عام 1948 تأسست رابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة في دمشق والمحافظات السورية الأخرى، بمبادرة من الحزب الشيوعي السوري وبالتعاون معه. ولابد من الإشارة إلى الاهتمام الذي أولاه الحزب الشيوعي السوري الذي تشكل عام 1924 مبكراً للمرأة، وضعها ودورها في حياة المجتمع وتطوره وتقدمه، وقد ترافقت مسيرة الرابطة مع مسيرة الحزب من حيث نجاحات النشاط وإخفاقاته وتقدمه أو ركوده..
كانت بلادنا وما تزال تعيش ذكريات النضال ضد المستعمر الفرنسي، وكان في ذاكرة المرأة لمحات رائعة من معارك الاستقلال التي خاضها شعبنا، وكان المؤتمر التأسيسي والأول للرابطة في دمشق عام 1949 بعد عام كامل من نشوئها وعملها. ولا يسعنا إلا أن نشيد بأولئك المناضلات الباسلات من رائدات الحركة النسائية التقدمية نذكر منهن: آمنة السباعي، سلمى البني، أمينة عارف قصاب حسن، عفاف ملا رسول، توفيقة شوحي، نادرة مللي، نوزت حسامي، مقبولة الشلق، ماري ديراني، فضة غندور حلال، كارولين عويشق، وديعة موشللي، فوزية الزعيم، وغيرهن كثيرات. وقد طالبت الرابطة بالترخيص لنشاطها عام 1953 فحصلت على ما عرف آنذاك بصيغة (علم وخبر)، وباسم مجموعة من الرابطيات بينهن المناضلة أسماء الصالح وأسماء الحمصي نالت الترخيص عام 1957.
وضعت المنظمة الفتية التي آمنت بأن تحرر المرأة مرتبط بتحرر المجتمع وتقدمه نصب أعينها في المؤتمرين التأسيسي والأول توجهاً انعكس ذلك في القرارات التالية:
1- العمل على زيادة دور جماهير النساء في حياة البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
2- تطبيق قانون التعليم الإلزامي للإناث والذكور.
3- مكافحة الأمية المنتشرة في أوساط واسعة جداً من النساء والمطالبة بإصدار قانون لمحو الأمية.
4- تعديل القوانين والتشريعات المتعلقة بالمرأة.
كانت الرابطة تواكب تطلعات المرأة، ترسم الطريق، تكتب العرائض، ترفع الصوت عالياً، وفي الوقت نفسه كانت مع المرأة في القرية والأحياء الشعبية الفقيرة.. أيدت حركات التحرر الوطني العربية والعالمية، وساهمت بنشر أفكار الاشتراكية العلمية.
صدر العدد الأول من (صوت المرأة) في شهر أيار عام ،1967 ورغم تواضع النشرة وضيق إمكاناتها فقد اختلفت عن الصورة التقليدية للصحافة النسائية البرجوازية. يمكن القول إن الرابطة أسهمت بنصيب لابأس به في النضال من أجل بلورة قضية المرأة السورية..
ساهمت الرابطة في معظم المؤتمرات العالمية للنساء التي عقدها الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، وقد بلغ عدد المؤتمرات التي ساهمت بها الرابطة أكثر من أربعين مؤتمراً عالمياً.
وفي حربي حزيران 1967 وتشرين الأول3791 التي عاشها شعبنا، كانت عضوات الرابطة في قلب المعركة ما بين متطوعات في المقاومة الشعبية وناشطات في ميادين الدفاع المدني ومتبرعات في مساعدة الجرحى في المشافي.
وفي حرب تشرين التحريرية لم تدخر عضوات الرابطة جهداً إلا وقدمنه، وكان لهن دور كبير عملي ومعنوي في القطاعات الشعبية، فتطوعن في المشافي والمستوصفات ومراكز الإسعاف الداخلية والحدودية، وشاركن في أعمال الدفاع المدني والإنقاذ، بروح كفاحية عالية.
الرابطة والقوانين التشريعية للمرأة السورية
نلاحظ أن الأرضية القانونية التي استندت إليها هذه القوانين تتضمن عناصر تمييزية واضحة ضد المرأة، وهي موجودة بالأصل ضد حقوقها وإنسانيتها منها:
* قانون الانتخابات، وقانون الأحوال الشخصية.. الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية، اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، وقانون الجنسية.. وغيرها.
هذه القوانين التي حملت الكثير من بذور الإجحاف والتمييز أدت إلى تغييب الفرص المتكافئة والعادلة لوصول المرأة السورية إلى مواقع المسؤولية في صنع القرار، في وقت تصاعد فيه نشاط التيارات الأصولية وتأثيرها وأصبح شكلاً من أشكال الخطاب السياسي المتطرف وتوفير المنابر المتعددة، وعودة بعض مظاهر العادات والتقاليد الظلامية للضغط على النساء والمجتمع تحت شعارات مختلفة في محاولة فرض أفكار الجهل والتخلف والغيبية التي تعيق تطور المرأة وبالتالي تعيق تطور المجتمع بكامله.
قانون الانتخابات
نالت المرأة السورية لأول مرة حقها في الانتخابات عام 1949 مع حصره بالمتعلمات فقط من النساء، وقد توسع هذا الحق عام 1953 بعد تدخل الرابطة والمنظمات النسائية الأخرى التي كانت قد تشكلت حديثاً لتشمل الانتخابات والترشيح.
قانون الأحوال الشخصية
يعد قانون الأحوال الشخصية من أكثر التشريعات أهمية بالنسبة لموقع المرأة الاجتماعي والسياسي والقانوني، ساهمت الرابطة في العمل منذ عام 1970 من أجل تعديل هذا القانون، فتقدمت بمذكرة إلى مجلس الشعب عام ،1970 كما دعمت كل المبادرات والنشاطات التي طُرحت في حينه حول التعديل، من الاتحاد العام النسائي السوري ومن منظمات نسائية أخرى وشخصيات وطنية مستقلة.
وفي الدور التشريعي الرابع قدمت الرابطة لمجلس الشعب مذكرة تضمنت اقتراحات ملموسة لتعديل القانون، وألحقتها بتعديلات أخرى قبل عام 2009 قبل صدور القانون الجديد.
الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية
في المؤتمر الخامس للرابطة في أواسط حزيران عام ،1972 وأثناء وضع الدستور الدائم للبلاد، وجهت الرابطة برقية إلى السيد رئيس الجمهورية حافظ الأسد، للأخذ بالاعتبار حقوق المرأة التي يجب أن يكفلها الدستور الجديد، خاصة فيما يتعلق بتعديل قانون الأحوال الشخصية. كما قدمت الرابطة مذكرة إلى لجنة وضع الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية في مجلس الشعب بأن تلاحظ عند وضع الدستور التطورات الكبيرة التي طرأت على وضع المرأة في البلاد وتكريس الواقع الجديد عند وضع البنود المتعلقة بحقوقها.. وكانت الرابطيات قد جمعن مئات التواقيع على المذكرة قبل تقديمها، ولكن عند وضع الدستور بدا وكأنه لم تلحظ أي من اقتراحاتنا.
الرابطة والقضية الفلسطينية
رافقت الرابطة القضية الفلسطينية منذ نشوئها، وفي كل مراحلها، وكانت مؤتمرات الرابطة ونشاطها منبراً للدفاع عن القضية الفلسطينية كقضية مركزية لكل الشعوب العربية، وكانت في قلب الانتفاضة الأولى والثانية، وقد بادرت الرابطة في شهر تشرين الأول عام 2000 مع المنظمات النسائية السورية والعربية والفلسطينية الموجودة في دمشق إلى تشكيل هيئة حملت اسم اللجنة النسائية العربية في سورية لدعم الانتفاضة، وكان هذا قراراً وطنياً لدعم المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني، وكان من أهم الأهداف التي عملت اللجنة على ترسيخها نشر الوعي بأهمية الانتفاضة واستمرارها.
الرابطة والتحالفات
بالعودة إلى أدبيات الرابطة ونشاطاتها ووثائق مؤتمراتها، نرى أن العمل التحالفي كان ولايزال يحظى بقسط كبير من اهتمام الرابطة.. من هذا المنطلق طرحت الرابطة في مؤتمرها الخامس في كانون الثاني 1970 قضية التحالفات مع المنظمات النسائية الموجودة على الساحة السورية.
وأخيراً يمكن القول بأن هذه الصفحات لم تكن تأريخاً، فالتاريخ له مستنداته ووثائقه، ونحن في الرابطة لا نملك إلا القليل القليل جداً من هذه الضرورات، كانت مجرد لقطات مما اختزنته الذاكرة الشخصية، ومجرد شذرات من ذكريات المناضلات في الحركة النسائية السورية.. أتمنى أن تكون هذه الصفحات حافزاً لآخرين على التأريخ لهذه الحركة بموضوعية ومصداقية، وربما يمكن القول إن تأسيس هذه الجمعيات ومجمل نشاطاتها المتنوعة تشكل وجهاً مضيئاً من وجوه المساهمة النسائية في نضالات شعبنا الوطنية والديمقراطية والاجتماعية.
* (مقتطفات من المحاضرة التي ألقتها الرفيقة زينب نبّوه في الاحتفال بيوم المرأة العالمي 23/3/2017)