خروج بريطانيا…هل بدأ الزلزال؟

أعلن البيت الأبيض يوم الجمعة 24 حزيران أن الرئيس باراك أوباما يتمسك بتعهده بأن تأتي بريطانيا في مؤخرة الصف، عندما يتعلق الأمر باتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة، إذا انسحبت من الاتحاد الأوربي. وقال إريك شولتز المتحدث باسم البيت الأبيض للصحفيين (بوضوح الرئيس يتمسك بما قاله وليس لديّ تحديث لموقفنا).

وكان أوباما قد حث بريطانيا على البقاء في الاتحاد الأوربي عندما زار لندن في نيسان، وحذر من أنه لن يجري إبرام اتفاق تجاري بين البلدين في أي وقت قريب إذا انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوربي.

أوباما كان جدياً في إطلاق التحذير.. فالأزمات السياسية والاقتصادية التي واجهتها وتواجهها الولايات المتحدة بعد الانهيار الكبير في خريف ،2008 تتطلب كياناً أوربياً موحداً ومنسجماً يتلقى انعكاسات هذا الانهيار لتخفيف آثاره على الأمريكيين من جهة، ويقف في الصف الأمريكي في مواجهة صعود الدول النامية الكبرى وتجمعاتها السياسية والاقتصادية : (بريكس- شنغهاي).. وغيرها. ولكن عدداً من وسائل الإعلام الأمريكية لم يتغاضَ، كما أوباما عن تداعيات الخطوة البريطانية على أمريكا، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. فالتهويل الذي كان قد سبقها استمر، أمس، بالإشارة إلى أهمية الحليف الإستراتيجي ودوره في (تمرير) الإرادة الأمريكية، ضمن قرارات الاتحاد الأوربي.

وبناء عليه، كانت الإشارة إلى دعوات المسؤولين العسكريين في أجهزة الاستخبارات الأمريكية والدولية، التي حذرت من الـ(بريكست)، وهو ما تطرّق إليه موقع (ديلي بيست)، معتبراً أن خروج بريطانيا يخص الولايات المتحدة، (لأنه يحمل نتائج مباشرة على أمننا القومي). واستند الموقع في ذلك إلى تصريح صادر عن الأمين العام لـ(حلف شمال الأطلسي) ينس ستولسبرع، الذي قال إنه (من أجل محاربة التهديد الإرهابي، نحن بحاجة إلى أن يكون لدى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوربي، تعاون أقوى).

وبالمثل، أظهرت استطلاعات للرأي أُجريت مؤخراً في إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، السويد، هولندا وجمهورية التشيك والمجر أيضاً، أن هذه البلدان يمكن أن تقتفي أثر بريطانيا إذا ما نجحت في مغادرة الاتحاد الأوربي. ففي هولندا، دعا الزعيم المناهض للهجرة والإسلام خيرت فيلدرز إلى إجراء استفتاء على عضوية هولندا في الاتحاد الأوربي. وقال فيلدرز، الذي يقود استطلاعات الرأي في بلاده، إنه إذا ما انتُخب رئيساً للوزراء في الانتخابات العامة في آذار المقبل، فسيدعو مواطنيه إلى الاستفتاء أيضاً. ثم في شهري نيسان وأيار المقبلين، ستصوت فرنسا في الانتخابات التي يرجَّح أن تصل فيها مارين لوبان المناهضة أيضاً للاتحاد الأوربي إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وعلى الرغم من تأكيد استطلاعات الرأي أن لوبان ستخسر في الجولة الثانية، فإن وسائل الإعلام المحسوبة على أقصى اليمين تؤكد أن هذه النسب قد تتغير، خاصةً بعد إعلان لوبان عن سياستها التي تتميز بمزيج من القومية والحنين إلى الماضي.

الحجة نفسها تكررت على أكثر من لسان، ولكن بصيغ مختلفة، وقد تطرّق إليها (الأستاذ في جامعة كولورادو) بيتر هاريس، قائلاً في تعليق نُشر في مجلة (نيو ريبابلك) إن (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، يشكل تحدياً جديداً للاستراتيجية الأمريكية الكبرى). واعتبر هاريس أن (هذه الإستراتيجية واجهت ضربة مزدوجة، ذلك أن أحد أقوى حلفاء الولايات المتحدة في أوربا قد صوّت للتو لخسارة مقعده على الطاولة في بروكسل).

لم يخفِ الكاتب حقيقة أن الولايات المتحدة (لطالما اعتمدت على أوربا موحّدة وقوية ونابضة بالحياة لمساعدتها على ترسيخ القواعد الأساسية للنظام العالمي، التي تأمل أن يستمر فترة طويلة كفاية خلال القرن الـ21). وهو في هذا الإطار، أشار إلى أنه (منذ انضمامها إلى اللجنة الاقتصادية الأوربية، عام ،1973 كانت بريطانيا حليفاً فعّالاً في خدمة هذه الأهداف، ودائماً ما كانت سنداً يمكن الاعتماد عليه لتوسيع اتحاد أوربي، مبني على المبادئ الاقتصادية الليبرالية.

قرار البريطانيين بالانسحاب ليس مفاجئاً إلاّ لمن لا يريد الاعتراف بأخطار السياسات الاقتصادية النيوليبرالية على مجمل الاقتصاد العالمي، وعلى مصالح الشعوب في أوربا والدول النامية.

كانت منطقة اليورو في نظر الاقتصاديين، خاصة التكامليين منهم-حسب تعبير (الإيكونوميست) البريطانية- أعظم اختراع نقدي أثمرته عملية التكامل الأوربية خلال 53 عاماً، خاصة بعد أن اتسعت عضوية منطقة اليورولتشمل 16 دولة جديدة، أما الآن فتحوم الظنون حول الجدوى الحقيقية لهذه الثمرة، بل حول الأداء الكلي للاتحاد الأوربي، فالاقتصاد الأوربي يتراجع بوتيرة سريعة، إذ بقى معدل النمو خلال السنوات الأخيرة عند حدود دنيا، لا يتجاوز في أحسن الأحوال 5,1%، بينما قفزت معدلاته في الدول النامية الكبرى إلى 10% أو أكثر. ويكمن جوهر الأزمة الحالية في ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وعجز الموازنات العامة في معظم دول الاتحاد الأوربي، خاصة اليونان والبرتغال واسبانيا وإيطاليا -بدرجة أقل- والتي يبلغ فيها الدين العام بين 80 و123% من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي أدى إلى هبوط العملة الأوربية الموحدة وتباطؤ النمو الاقتصادي، ودخول الدول الأوربية في نفق الركود في فترة كان على أوربا خلالها حرق المراحل للتخلص من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في خريف 2008.

شكوك الأوربيين بتفكك الاتحاد الأوربي لم تعد شكوكاً بعد أن كشفت تداعيات الأزمة العالمية هشاشة القاعدة الاقتصادية والمالية، خاصة بعد توسيع الاتحاد الأوربي، فقد ذكرت الصحافة الأوربية أن فرنسا وألمانيا تدرسان إنشاء منطقة يورو جديدة من مستويين، الأول يدعى (سوبر يورو) ويضم فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا وفنلندا، بينما تترك الدول المتبقية (الفقيرة ذات الأداء الضعيف) في المستوى الثاني، وبالطبع لا يمكن تقييم هذا الإجراء في حال حدوثه إلاّ انتكاسة للوحدة الاقتصادية الأوربية التي بدأت بالتكون في خمسينيات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

خرجت الطبقة العاملة والفئات الفقيرة إلى شوارع المدن الرئيسية احتجاجاً على موازنات بلدانهم التقشفية، التي جعلتهم كبش الفداء إثر الإجراءات المتحيزة التي لجأت إليها الحكومات الأوربية لمعالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تفجرت في قلعة الإمبريالية في خريف ،2008 والتي تشظت باتجاه الاقتصادات الأوربية والعالمية تبعاً لاقترابها أو ابتعادها عن سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة. فالحلول التي لجأ إليها قادة الاتحاد الأوربي لمعالجة تداعيات الانهيار الكبير صبت المليارات في صناديق المصارف الكبرى، أما تبعات زيادة العجز في موازناتها نتيجة لذلك، فكان على العمال والفئات الشعبية الأخرى أن تتحملها فقداناً لوظائفها.. وانخفاضاً في أجورها، وتراجعاً عن مكاسب اجتماعية حققتها خلال نضالها الطبقي الطويل.

في استطلاع أجرته صحيفة (فاينانشال تايمز) بالتعاون مع مؤسسة (هاريس) الأوربية في عام ،2009 تبيّن أن 87% من الألمان و73% من الفرنسيين و58% من الأسبان و46% من الإنجليز، يرفضون الرأسمالية الأمريكية، لأنها (عنيفة ومتوحشة) ولا تأخذ بالحسبان الضمانات الاجتماعية للمواطنين، وبدا واضحاً وفق الاستطلاع المذكور أن غالبية المواطنين الأوربيين يعتقدون أن الشركات الدولية المتعدّدة الجنسيات أكثر قوة من الحكومات الأوربية.

.يقول الاقتصادي الشهير شيلر، الأستاذ في جامعة ) يال) الذي حذر منذ سنوات من طغيان السوق المنفلت من أي ضابط أو قيد: (إن استمرار الوضع الذي تتفوق فيه الأسواق على دول برمتها يعني زيادة الفوارق الطبقية، وزيادة ثروات الأغنياء، وارتفاع عدد العمال الفقراء، إنها أكبر معضلة سيواجهها القرن الحادي والعشرون).وبالطبع فإن ما قصده شيلر لا يتطرق إلى العاطلين عن العمل، بل إلى العمال الفقراء الذين يتقاضَوْن ما بين 3 و4 يوروات، وعددهم يتجاوز 7 ملايين عامل في ألمانيا، و25% من مجموع العاملين في الولايات المتحدة، فكيف سيكون الوضع إذا أضيف إليهم ملايين العاطلين الذين تبلغ نسبتهم نحو 9% في الولايات المتحدة، و24%في إسبانيا ونحو 11% في إيطاليا، و9% في فرنسا و17% في البرتغال، ومئات الملايين في دول العالم الأخرى؟ (1)

الأوربيون افتقدوا دولة (الرفاه) الاجتماعي التي حاولت (احتواء) الصراع الطبقي بحزمة من القوانين الاجتماعية التي سنّت لصالح الفئات الفقيرة والمتوسطة، وهاهم اليوم يعبرون بطريقتهم عن غضبهم.. عن كرههم للرأسمالية المتوحشة التي حصرت الثروات في أيدي القلة من النخب، وتركت الأكثرية عرضة للجوع.

******

المراجع

 1 – راجع انهيار الرأسمالية-اولريش شيفر.

العدد 1140 - 22/01/2025