إمبريالية وسائل التواصل الاجتماعي

يقول الفيلسوف إيمانوئيل ليفيناس، الليتواني الأصل وصاحب كتاب (الشمولية واللامتناهي): إن الاستعمار ليس فقط احتلال بلد أو مجتمع عبر جحافل الجند وجيوشه, بل  الاحتلال الحقيقي هو فرض هذا المستعمر خطابه وأسلوب حياته ونمط استهلاكه على الآخر, وعلى هذا الآخر أن يرضخ دون مقاومة هذا النسق الاحتلالي. إن هذا النسق هو جوهر الإمبريالية الثقافية.

ظهرت إمبريالية ما بعد الحداثة التي قادتها وما تزال الولايات المتحدة, مع نهاية ستينيات القرن الماضي بأساليب ومناهج جديدة, حالها حال أي نظم توسعية تقوم بتطوير هيمنتها, وفي حالة ما بعد الحداثة تجاوزت الولايات المتحدة الهيمنة السياسية والاقتصادية لتصل إلى الجانب الثقافي. ومازالت الولايات المتحدة تسعى بقيادة الشركات ومراكز الرأسمال الكبرى إلى فرض ثقافتها على المجتمعات الأضعف, ووصلت في بعض الأحيان إلى محاربة النماذج الحضارية المحلية, ومنعها من التطور واستكمال سياقها التاريخي.

ولا يخفى هنا أن سياق الوعي الإنساني قادر على استيعاب مجمل الثقافات مهما بلغت من التناقضات, لكن عندما يكون الرأسمال هو المحرك الأساسي لتصنيع ثقافة تعتمد الاستهلاك, فإن أي نماذج حضارية أخرى هي غير مقبولة. حالياً هناك خلل هائل في توازن القوى بين الشمال والجنوب, وتحديداً بين الولايات المتحدة وبقية العالم, ينعكس هذا الخلل في تمدّد ثقافة الولايات المتحدة وردات الفعل الناتجة عن هذا التمدد في استثمار الثقافات الأخرى أو دفعها إلى سوياتها القصوية المتطرفة. هنا لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً هاماً بذلك.

من اسمها بدأت وسائل التواصل الاجتماعي بدردشات بين الأصدقاء وتبادل صنوف التسلية, لتتحول لاحقاً إلى واحدة من أقوى الأسلحة لدى الإدارة الأمريكية في تغيير النظم السياسية والثقافية في العالم. ظهرت ذروتها في (الربيع العربي) في تونس (كانون الأول 2010), ثم في مصر (كانون الثاني 2011), ثم ليبيا واليمن (في شباط 2011), ثم سورية (آذار 2011),  ثم ثورة المظلات الملونة في هونغ كونغ (في أيلول 2014). ولا يخفى أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت إحدى أهم الوسائل في إشعال العنف في سورية, فقد نشأت على صفحاتها هيئات تحت مسمى تنسيقيات (الثورة) السورية في مختلف المحافظات, عملت عبرها شخصيات قيادية وإعلامية وشرعية ومالية (غير مرئية) دفعت بالعنف والتدمير والفوضى إلى أقصى حدود ممكنة.

هكذا، وفيما التنظيمات الإسلامية الفاشية المسلحة تقوم بالتدمير الممنهج للأسس المدنية والثقافية والحضارية في سورية ودول مشرقية أخرى عديدة,  يعكف موظفو الفيس بوك البالغ عددهم نحو 12 ألف شخص على استراتيجيات وتكنولوجيات هائلة الدقة والسرعة لـ (خدمة), (1,34) مليار مستخدم في العالم,  و(التويتر) 4200 موظف لخدمة 350 مليون مستخدم.

لكن هذه الخدمة ليست مجانية, إذ بلغت سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على عقول البشر, خاصة شريحة الشباب, حدّاً غير مسبوق, وأن هذه السيطرة, ستسمح للولايات المتحدة إخضاعها في نهاية المطاف للعالم عبر العقل, وقد تدمره في لحظة يستطيع فيه سياق فكري- تقني ذو مضمون مالي توحشي أن يدمر في طريقه كل السياقات أو معظم السياقات الفكرية البشرية الأخرى. وهذا ما يحصل في سورية والمشرق العربي.

لقد لعب التواصل الاجتماعي كما أثبتت دراسات عديدة, وكما لمسناه من تجربة الأزمة السورية, دوراً كبيراً في تسهيل انضمام الجهاديين من عدد كبير من الدول حول العالم إلى الجماعات الإرهابية, عبر التواصل المباشر أو عبر إنشاء مجموعات شبكية مغلقة, ينضم إليها  أصحاب الفكر المتطرف من شتى أنحاء العالم. حتى أن المنظومة الفكرية لهم أصبحت حيوية وقابلة للتعديل نحو التطرف بصورة أسهل نتيجة تبادل فتاوى القتل أو التكفير واعتمادها. وفي هذا السياق لابد أن نذكر أن مبدأ (سياسة الخصوصية) التي تنادي بها وسائل التواصل الاجتماعي هي أكبر خدعة, أثبتتها التسريبات المتكررة للوثائق الوطنية لبعض الدول. بالتالي فإن الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة قادرة على كشف كل المنظومات الجهادية التكفيرية إذا أرادت هي ذلك, لكن الواقع أن الإمبريالية الأمريكية لا تريد، ووصلت هيمنتها إلى حدّ استثمار الثقافة الدينية خصوصاً والمشرقية عموماً في خدمة مصالحها الإمبريالية العليا.

العدد 1140 - 22/01/2025