قصور وقياصرة.. ولكن!
صدّقوني – لا أخفي عليكم – أحياناً تنتابني لحظات من الهلوسة مطعّمة بقليل من بهارات الجنون، وكلّما قررت أن أفكّر بصوت عال يخف طعم البهارات وتضمحل الهلوسة قليلاً خوفاً من جدار يختلس السمع من هناك أو هناك.
اليوم وبعد أن بقّ الكثيرون بحصتهم، وجدت أنه من الضروري أن أبقّ البحصة أنا أيضاً وأفكر بصوت قوي كقوة الحق في كيفية الخروج من الوحل لأهم مفصل من مفاصل الحياة اليومية. طبعاً لن أتحدث عن الطبخ والنفخ ولا عن آخر صرعات الموبايل ولا عن عروض سيرياتيل وشقيقتها ام تي ان ولن أصعد إلى صهوة سريري لأحلل وأفسّر وأبيّن أن ما نتعرّض له هو مؤامرة.
المهم سأحكي عن القصور والقياصرة.. ففي بلدي الكثير من القصور ويجلس فيها قياصرة بكل معنى الكلمة.. قياصرة تكون رقاب العباد تحت وطأة مزاجيتهم أحياناً وعواطفهم أحايين أخرى، وفي حالات قليلة يكون هذا المعتّر تحت وطأة القانون وفي بعض الأحيان تتحكّم في القضية أشياء لن أتحدّث عنها حفاظاً على مقالتي من عدم النشر.
إن المتابع للحركة في هذه القصور يدرك بقليل من الفطنة أن بعض من يتربعون على عرش هذه القصور هم قياصرة بالفعل، فهم ينتهكون حرية المواطن متى شاؤوا ويستهترون بوقته كيفما شاؤوا ويهدرون ماله كيفما شاؤوا. في كل مملكة هناك قيصر واحد وملك واحد، أما في بعض قصورنا العدلية فهناك العديد من القياصرة في كل قصر.
في الأسفل يوجد الآذن ويعلوه رئيس الديوان وكاتب العدل وموظفوه، ويعلو هؤلاء القضاة والمحامي العام. وكل فرد منهم هو قيصر حقيقي مستقل بذاته على الرغم من وجود التراتبية الوظيفية طبقاً للقانون. ثمة تواطؤ بين بعض قياصرة القصور العدلية على ما يبدو فكل يعمل لحسابه ومن ثم تتبادل العطايا كل يوم أو أسبوع أو كل شهر.. لا أدري في حين تبقى الأحكام مرهونة بالمفتاح الذهبي.
نعم المفتاح الذهبي هو الشخص الذي يمون على بعض القضاة القاضي أو القياصرة وقد يكون هذا المفتاح أحد أقاربه أو احد أصدقائه أو قد يكون احد المحامين وعن طريق هذا المفتاح تحل أية قضية بصرف النظر عن المستندات والوقائع، وقد أفسح وجود المفتاح الذهبي المجال لوجود مفاتيح مقلّدة لا تعمل، وهنا الكارثة الحقيقية، إذ إن بعض المواطنين يقعون ضحية مفتاح تقليد.
إن المبدأ القائل بأن القرار القضائي المبرم هو عنوان الحقيقة مهما كانت الأخطاء التي انطوى عليها هو مبدأ يجري استثماره حتى الثمالة من قبل البعض، ولكن وكي لا نتهم بأننا نرى نصف الكأس الفارغ من الكأس (علماً أن الكأس لا يوجد فيه أكثر من رشفة واحدة) سنعرّج على بعض الاستثناءات فبين الركام ثمة جواهر تلمع وتضيء وكأنها شموس في سماءات داكنة.. نعم إنهم بعض القضاة والعاملين الذين تواضعوا للحق وللإنسان.
الجميع يعلم أن مفصل القضاء حساس ودقيق ولكن القضاء بوضعه الراهن مع بعض الاستثناءات التي ذكرتها سابقاً لا يبعث على الطمأنينة في نفوس المواطنين، وهو يحتاج إلى عملية جراحية تعيد إليه رونقه المشع، فمن أين نبدأ يا ترى؟!
أعتقد أن الكشف عن الفاسدين والمفسدين يعرض للخطر، فمن ذا الذي يعشق ركوب الخطر سوى الفرسان؟!. وفي بلادي الكثير من هؤلاء الفرسان الذين ينتظرون صافرة البدء علماً أن قائد الوطن قد أطلق صفارة البدء وشرعت جياد الفرسان تصهل وانطلقت تمخر عباب الإصلاح، ولحسن الحظ أننا نعيش في زمن قائد شجاع وحكيم تقدّم الصفوف في الرحلة إلى تحديث سورية وتطويرها.
إن محنة المواطن والوطن التي نمر فيها ستولّد من رحمها أعظم هبة، فقدرنا في سورية أن نسير على درب الجلجلة عبر آلامنا العميقة نسير إلى القيامة فالعيد.. نعم العيد بانتظارنا إن شاء الله. وكي لا نخرج عما قدّمنا إليه سنعود إلى موضوع القضاء والقوانين فإن من الضروري تحديث القوانين قبل الحديث عن الإنسان، فالتعامل مع القوانين وكأنها كائنات حية أمر مخالف للمنطق وللطبيعة. نعم ، فالإنسان هو الذي أبدع ويبدع القوانين وهذه بديهية وهنا يكمن السؤال ما الفائدة من أن نكون بشراً أخلاقيين ومبدعين؟!. عندما نكون أخلاقيين ومبدعين نبدع العلم والثقافة والشعر والموسيقا والقوانين.
إن القوانين القاصرة هي ببساطة نتاج فكر قاصر وعندما يتغنى الكل بمبدأ سيادة القانون يجب أن نأخذ بالحسبان أن هذا القانون في بعض تفاصيله هو نتاج فكر قاصر وهو نتاج بيئة معينة قد تغيرت وهو يتجاهل في الكثير من تفاصيله مجرى الوقائع.
إنّ التضحية بالإنسان على مذبح قوانين غير ملائمة هو شكل من أشكال القتل غير المسمّى، فالإنسان هو غاية الحياة وهو منطلق الحياة كما قال القائد حافظ الأسد.
إن التاريخ في حركة مستمرة ودائمة التغيير وطبيعتنا الإنسانية تجبرنا على الحركة والتغيير ومطلوب من مؤسساتنا القضائية والتشريعية التجاوب مع هذه الحركة، فكل ما حولنا لم يكن ليوجد لولا الإبداع الإنساني لمن سبقنا، فهل سنفتح الطريق لجميع الفرسان المبدعين المستعدين للسير في الطريق المؤدي إلى تجديد المؤسسات وإعادة خلقها والكشف عن الفاسدين والمفسدين وتعريتهم ومحاسبتهم حساباً عسيراً وبعدها يأتي تجديد القوانين وتحديثها كنتيجة طبيعية وتلقائية.. هل يمكن ذلك؟!. أم أننا سنبقى رهينة بيد القوانين التي أكل عليها الزمان وشرب؟!