شهداء مصياف: قبور لأجسادنا ومدارس لأبنائنا
لعل القمر الذي يضيء ليل الأرض فيجلو عتمات القلوب قبل التضاريس لا يعرف أن نوره هو من يفعل كل ذاك، ولعل الشمس تعتقد أن الأرض مضيئة ولا تدرك أن هذا الضياء هو بفعل نورها، ولربما غفلت الساقية عن جوهر أصلها في إحياء نفس كادت تموت من العطش لو لم تنهل من مياهها، وقد يستشهد شهيد دون ضجيج فتعمر الأرض بشهادته ويحيا من حوله بسلام دون أن يعلم أنه كان بموته سبباً لإضاءة هذه البقعة من الأرض تماماً كما الشمس والقمر والساقية، القاسم المشترك هو العطاء الذي يستنكر المن.
في مصياف كما في غيرها من المدن السورية شهداء بحجم قلوب القديسين والأبرار حيث لا يوجد إلا الله وحب الله، ومن أحب الله هانت عليه كل الأهوال إيماناً منه بعدالة رب السماء، في مصياف تسمع أصوات الثكالى في صور الشهداء التي غصت بها الطرقات والزواريب وحتى الأرض، أما عيون الشهداء فتقول الكثير الكثير، فإن أصغيتم أكثر لسمعتم همساتهم وهم يوصون المسؤولين بأبنائهم اليتامى، ويحلفونهم بقسم الولاء للوطن الذي أقسموا عليه عندما استلموا مناصبهم، أن ينظروا، بعين المسؤولية أولاً والعطف ثانياً، إلى أطفال حرمتهم الحرب من آبائهم، فلم يبق لهم إلا صورة لوالدهم الشهيد وضريح في أقصى القرية.
هذه الحرب قسمت قرانا _ونحن البسطاء الفقراء الشهداء_ إلى قسمين، قسم كبير خصص لأجسادنا فكثرت الأضرحة في أرضنا التي كانت سابقاً مرجاً أخضر ينتظر مخططاً لمدرسة أو مشفى أو بناء حكومي، لربما نالنا بين حيطانه وظيفة نعيش بها بكرامتنا لولا هذه الحرب ولولا شهادتنا، وقسم آخر يحوي بيوتنا التي يحيا فيها الآن أطفالنا مع أمهم الأرملة الشابة التي يقع على عاتقها مهمة لا تقل عن مهمة أي جندي شريف، أفليس من واجب الدولة أن تبني مدرسة لأبنائنا، أبناء الشهداء تقر بها عيوننا المغمضة تحت تراب قريتنا الصغيرة؟؟؟
ونظراً للعدد الكبير لتعداد الشهداء في مصياف والذي يفوق الأرقام الاعتيادية لمنطقة صغيرة نسبياً كمنطقة مصياف،كان لابد من المطالبة بمدرسة لأبناء الشهداء أسوة بمدرسة أبناء الشهداء في دمشق، ولا ننكر أن مدرسة أبناء الشهداء في دمشق تستقبل كل أبناء الشهداء من كل المحافظات بلا استثناء، وتوفر لهم الرعاية الفائقة والحنان الذي قد يعوضهم قليلاً عن حنان الأب الشهيد، إلا أن العناء الذي يتكبده هؤلاء الأبناء ومن ورائهم أمهاتهم، للوصول إلى دمشق من مصياف وصعوبات التنقل وغلاء الأسعار، إضافة إلى بعد الأم عن أبنائها، كل هذا ساهم بمطالبات شعبية شاملة لدراسة مشروع إنشاء مدرسة لأبناء الشهداء في مصياف، التي قدمت عدداً كبيراً من الشهداء خلال سنين الحرب هذه.
والعامل الآخر للمطلب الحق لإنشاء مدرسة لأبناء الشهداء هو زيادة الضغط على المدارس الخاصة بأبناء الشهداء نسبة إلى زيادة عدد الشهداء في كل أصقاع سورية، وهذا أيضا عامل ساهم في ضياع فرصة الالتحاق بمثل تلك المدارس التي توفر أفضل الأجواء الحياتية والتعليمية على حد سواء.
خاصة أن نظام مدارس أبناء الشهداء يعمل حسب تسلسل الطلبات وتوفر الشاغر، فقد تستقبل المدرسة ثلاثة أطفال من عائلة ميسورة نوعاً ما لأنه فقط تم تسجيلهم قبل طفل والده شهيد وأمه متزوجة ولا يملك بيتاً ولا يوجد من يصرف عليه، فهنا الإدارة لا تعطي الأولوية للحالات الأكثر حرجاً، بل لتسلسل طلبات التسجيل، وهذه نقطة يلام عليها القائمون على إدارة مدارس ذوي الشهداء.
يناشد أهالي الشهداء في مصياف، باسمهم وباسم أبناء الشهداء وبناتهم كل الجهات الرسمية والفعاليات الاقتصادية، وأصحاب الأيادي البيضاء والجمعيات الخيرية، ورجال الأعمال الوطنيين في المغترب، إلى لم شمل العائلات المنكوبة بفقدان شهدائها، وإبعاد أبنائهم إلى المحافظات الأخرى، وذلك بإنشاء مدرسة خاصة بأبناء الشهداء في مصياف تحديداً، وعلى أرضها وبالقرب من قبور شهدائها، كي تقر عيونهم وترتاح أرواحهم، فيطمئنون على مستقبل أبنائهم بالقرب منهم، ويفرحون وهم في أضرحتهم أن الأرض التي غصّت بأجسادهم ستتسع لمدرسة تُفرح قلوب فلذات أكبادهم، وهذا أبسط الحقوق لشهداء عمرت بشهادتهم الأرض، وقد تعمر الأرض بشهدائها أكثر من أحيائها..