مجهول النسب… سجين الاسم !

النفس الأول، والصرخة الأولى، وتلك القبلة التي طبعت على جبيني، كنت أظن أني كأي وليد جديد، ولكن رميت في الشارع الأول، عند أقرب دار عبادة، وأصبحت ذكرى طي النسيان.

سأبدأ من الصرخة الأولى لحظة ولادتي، غير أن هذه الصرخة سترافقني حتى مماتي، لأني كنت ذاك الطفل المجهول النسب، الذي سيلتصق به ذاك العار كظله، رغم جهلي إن كنت ابناً غير شرعي، أو ربما شرعي
أو أن أهلي رموني خوفاً من العار أم من الجوع، و لا أعلم هل أقول من سوء حظي، لأني لم أمت من برد قارس، أم من حسنه، فقد تلقفني شخص مُلئ قلبه بالإنسانية، ونقلني إلى أقرب مركز شرطة، فجرى احتضاني في مراكز مخصصة
وكُتبت لي الحياة ولكن ضمن قوقعة مجهول النسب، التي تجعل مني منبوذاً اجتماعياً، محروماً من حق الحياة والاندماج في المجتمع، فهل من حل ينتشلني من سواد نظرة الناس إليّ، ويمنحني حريتي للانسلاخ من مسمى لا ذنب لي فيه.

إن ظاهرة الأطفال (مجهولي النسب) بسورية، تفشت بشكل كبير، وخصوصاً في هذه الحرب، لذلك تغير وصف الطفل الذي لا يعرف ذويه، من لقيط إلى مجهول النسب، فكانت التسمية الجديدة بهدف حماية الأطفال، من الأذى النفسي الذي يلحق بهم، بسبب إطلاق وصف لقيط، واشتمال مسمى مجهولي النسب الأطفال الذين فقدوا ذويهم.

وأصبح تعريف مجهولي النسب: هو الوليد الذي يعثر عليه ولم يثبت نسبه أو لم يعرف والده، إضافة إلى الأطفال الذين لم يثبت نسبهم ولا يوجد معيل لهم، والذين يضلون الطريق ولا يملكون القدرة للسؤال عن ذويهم لصغر سنهم، إضافة إلى المولود من علاقة غير شرعية، وإن كانت والدته معروفة.

وقد ارتفعت نسبة الأطفال مجهولي النسب، في البلاد، وذلك تبعاً للظروف التي مرت بها الكثير من الأسر، من نزوح ولجوء وفقدان بعض الأوراق الثبوتية، أهمها عقد الزواج الذي يمثل الإثبات الوحيد  لشرعية الأطفال، وتسجيلهم في سجلات الدولة
من قبل الأم  في حال غياب الزوج، سواءً كان مخطوفاً أو مفقوداً أو متوفى،  فقد تكونت  مشكلة الأطفال الذين تفرقوا أو فقدوا أسرهم، في هذه السنوات، فالعثور على ذويهم لإثبات نسبهم، أمر في غاية الصعوبة
وخصوصاً أن منهم من ولد في أحد البلاد المجاورة، وفي مخيمات اللجوء، والكثير من الأطفال الذين كانوا نتيجة تعرض أمهاتهم لحالات اغتصاب، في المخيمات ومناطق الصراع، والمناطق التي وقعت تحت سيطرة العصابات المسلحة، والتي حللت فيها ما يطلق عليه (جهاد النكاح)، فضلاً عن بعض الأطفال الذين قد يتركهم أهلهم الشرعيون
لعدم قدرتهم الإنفاق عليهم في هذه الظروف المعيشية القاسية،  على أمل أن يأتي من يعثر على طفلهم، ويسد جوعه ويدفئ جسده الصغير.

لهذا تتخذ الدولة عبر سلطاتها القرارات الأنسب، لاحتواء هذه الظاهرة، فتقوم بسن القوانين وتنفيذها لحماية الأطفال، واستصدار قانون مجهولي النسب الخاص بهؤلاء الأطفال، يتضمن مواد قانونية أشمل من قانون اللقطاء
وسط توجيه باستبدال مسمى لقطاء من جميع القوانين بمجهولي النسب، وبحسب القاضي الشرعي الأول بدمشق محمود المعراوي، سيعطي القانون مجهولي النسب امتيازات بتوفير كل أساليب الرعاية لهم، وتعليمهم
كما سينص على إحداث دار مؤقتة للضيافة، متوافر فيها كل ما يحتاج إليه مجهول النسب، وهي مؤقتة تستقبل الطفل من مخافر الشرطة، أو من الشخص الذي وجده، ثم تنظم الإجراءات لتسليمهم إلى إحدى دور الرعاية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.

مع العلم أنه لا يوجد إحصائية دقيقة تقدر أعداد الأطفال مجهولي النسب، فلا يمكن اجراء هذه الإحصائيات في المناطق الساخنة، وفي مخيمات اللجوء في الدول المجاورة، وقد كشفت مفوضية اللاجئين في تقرير أصدرته عام ،2014 أنه يوجد عدد كبير من الأطفال السوريين، لا يحملون شهادات ميلاد.

فنحن لا نعلم إن كنا نتحدث عن آلاف الأطفال، ولكن من المؤكد أنها لن تكون بالأعداد القليلة، فقد أوضح وزير الداخلية، محمد الشعار، أن (حالات مجهولي النسب التي يتم تسجيلها في الشؤون المدنية، أو دور الرعاية، ليست كثيرة بل هي قليلة جداً، ولا تتجاوز حالتين فقط شهرياً، وهناك ضوابط وقيود حقيقية في الشؤون المدنية، بالنسبة لتسجيلهم على أنهم مجهولو النسب).

وبناء على هذه المعطيات، لا تعترف الحكومة السورية بالإحصائيات الواردة من بعض الجهات الدولية، لأن الواقع برهن أن هناك مبالغة ومغالاة في أرقام هذه الإحصائيات، وتعمل الحكومة على تسجيل كامل عقود الزواج غير المسجلة، وتثبيتها لتسجيل الأطفال، وحفظ نسبهم، وحسب تحقيق استقصائي نشر في السنة الماضية تحت اسم أطفال بلا نسب
قال القاضي الشرعي محمود معراوي: ارتفعت طلبات تثبيت الزواج في السنوات الخمس الماضية إلى أكثر من 10أضعاف، وظهر في نتائج استطلاع الرأي ضمن التحقيق، شمل دمشق وريفها والقنيطرة،  أنه خلال السنوات الاربعة الماضية ارتفعت نسبة دعاوى تثبيت الزواج بنسبة 100% فيما وصلت نسبة دعاوى تثبيت النسب إلى 700% وكان السبب الرئيس في عدم تسجيل الأطفال وفقاً للمبحوثين هو غياب الزوج بنسبة 83%

وطبعاً علينا نحن كمجتمع تقبل هؤلاء الأطفال، لكي لا يقتصر حل هذه الظاهرة على استيعابهم وضمهم في مراكز مخصصة، بل من الأفضل نشر ثقافة دمجهم في المجتمع، ليسهموا في بناء مجتمعهم
فإن احتضنا هؤلاء الاطفال وأنشأناهم بشكل صحيح، وقدمنا لهم الرعاية الصحية، والنفسية اللازمة بالتوازي مع التعليم، فعندما نكفلهم نكون بذلك نحميهم، ونحمي مجتمعنا، أما إن أنكرناهم فسيعيشون في ضياع وتشرذم، وسيتخاطفهم ضعاف النفوس
وتجار المخدرات وقواد العصابات، وإن نجوا منهم سيبقون في ظلال الشوارع والأزقة، يختبئون من نظرة المجتمع القاسي، ويعيشون تشردهم بعيداً عن الحياة السليمة.

فللوقوف بوجه هذه الظاهرة، علينا العمل معاً شعباً وحكومة، العمل على حلها إن كان بتوعية مجتمعاتنا وعدم الوقوع كغيرنا من البلدان، في دوامة انحلال الأخلاق، والعلاقات غير الشرعية
أو دعم المعدمين مادياً، للحد من حالة رمي أطفالهم بسبب الفقر، وأما على صعيد الضائعين، فمع تطور العلم بات من اليسير مطابقة حمضهم النووي مع من يدعي أنه من ذوي أي طفل، فلا فرق إن كانوا مفقودين أو ضائعين أو أبناء غير شرعيين، ولكنهم في النهاية مجرد أطفال لهم الحق في الحياة، وفي عيش طفولتهم ومراهقتهم وشبابهم، بعيداً عن سلبية مجتمعاتنا، ودون عبء حمل ذنب هم براء منه.

 

العدد 1136 - 18/12/2024