استراتيجية الأمر الواقع ومسلسل الخضوع العربي

يكثر المسؤولون الإسرائيليون، ومعهم بعض النظام الرسمي العربي، من دعوة الفلسطينيين إلى الاعتراف بالوقائع السياسية والميدانية. ويبررون هذا التوجّه بمقولة إن رفض التسليم بهذه الوقائع التي فرضها الاحتلال، ومقاومتها لن تؤدي سوى إلى المزيد من التضحيات، ولن تغيّر من الواقع شيئاً. الدعوة نفسها تجددت في أكثر من مناسبة على لسان رئيس الوزارء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والأمر نفسه تكرر في أكثر من محطة سابقة، وشكّل أساساً وتبريراً لمسار التسوية.

لم تنطلق هذه المواقف الإسرائيلية، وبعض العربية، من فراغ، أو لكونها مجرد تسجيل نقاط في (عجقة) المواقف التي تضجّ بها الساحة الفلسطينية، بل هي صدى وترجمة لاستراتيجية ثابتة منذ مرحلة الاستيطان الصهيوني، ما قبل إعلان الدولة عام 1948، وما زالت تتواصل حتى الآن. ارتكزت هذه الاستراتيجية إلى سياسة فرض الوقائع الاستيطانية الذي استند إلى إدراك مسبق – كجزء من الخطة الاستعمارية – بتناغمٍ وتكاملٍ في مواقف الدول العظمى وأدائها، مع هذا الواقع المفروض. وبالنتيجة كان يجري رسم المسارات التي تلي، انطلاقاً من الوقائع الاستيطانية المفروضة باعتبارها من الثوابت، بحسب كل مرحلة.

أول المفاعيل الرسمية الدولية لهذه الاستراتيجية، برز في قرار الأمم المتحدة (181) الذي نص على إقامة دولة يهودية في عام 1947. واستندت فذلكة ذلك القرار إلى أن الصراع الفلسطيني ــ اليهودي الصهيوني، الذي كان قائماً في حينه، لم يكن بالإمكان حله إلا بتقسيم فلسطين بين دولتين يهودية وفلسطينية (لم تقم). وفي الحقيقة، لم يكن القرار الدولي إلا إضفاء شرعية على الواقع الذي فرضته الحركة الصهيونية، في السنوات التي سبقت، عبر استقدام مئات آلاف المستوطنين، وزرعهم في المستوطنات التي جرى بناؤها بحماية ودعم من الاحتلال البريطاني. وهو ما أدى إلى انتاج واقع ديموغرافي جديد على الأرض، استند إليه قرار التقسيم.

بعد إعلان دولة إسرائيل، جرى تثبيت حدود الخط الأخضر (حدَّدته الأمم المتحدة بعد هدنة الـ49 التي تم التوصل إليها بعد حرب عام 48)، ثم جرى تكثيف الاستيطان في الجزء الذي كان مخصصاً للدولة الفلسطينية (الجليل والمثلث والنقب)، وفق قرار التقسيم (181)، وجرى احتلاله خلال الحرب. وحرصت إسرائيل على استيطان تلك المناطق بهدف فرض وقائع تجعلها جزءاً من الدولة، وإخراجها من أي امكانية نظرية للتفاوض عليها مستقبلاً. ونتيجة الخضوع لسياسات فرض الوقائع الصهيونية والدولية، بات الآن مجرد التفكير بإمكانية المطالبة بالأراضي التي كانت مخصصة للدولة الفلسطينية، حتى لو بالاستناد إلى قرار دولي، (قرار التقسيم) ضرباً من (الهلوسة)السياسية.

بعد حرب عام 67، بدأت إسرائيل تنفيذ استراتيجية فرض واقع استيطاني يكرس الاحتلال ويُهوِّد الأرض في كل الأراضي التي استطاعت احتلالها… لكن فيما يخص الضفة الغربية التي تحتل مكانة خاصة في الفكر والاستراتيجية الصهيونية، وبعد مراحل من المفاوضات التسووية… استطاعت إسرائيل أن تجهض مشروع إقامة دولة فلسطينية – وفق سقف رهانات أوسلو – عبر خارطة استيطانية مدروسة وموزعة على مختلف أراضي الضفة. وباتت الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، (اريئيل، معاليه ادوميم وغوش عتسيون) التي تضم الأغلبية الساحقة من مستوطني الضفة (يبلغ عددهم إلى جانب مستوطني القدس الشرقية نحو مليون مستوطن)، خارج إطار امكانية الاخلاء في أي تسوية نهائية مفترضة مع السلطة. وجرى تحصين هذا المفهوم عبر إجماع إسرائيلي رافض لإخلاء هذه الكتل في أي اتفاق نهائي، وعبر موقف أمريكي رسمي، تجسّد برسالة من الرئيس جورج بوش إلى أرييل شارون في عام 2004، تعهّد فيها بأن تبقى هذه الكتل جزءاً من السيادة الإسرائيلية في أي تسوية نهائية.

وتؤكد العديد من التقارير الإسرائيلية أنّ الوفد الفلسطيني المفاوض كان يطالب بتبادل أراضٍ في مقابل هذه الكتل، الأمر الذي يعني تسليماً ضمنياً بأن تكون هذه الكتل جزءاً من دولة إسرائيل، في أي تسوية نهائية.

استراتيجية فرض الأمر الواقع في مدينة القدس الشرقية، بدأت بها إسرائيل في وقت مبكر. في المرحلة الأولى، جرى توسيع سلطة بلدية القدس إلى العديد من القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس الشرقية، بهدف السيطرة على أراضيها. ثم بادرت إلى سياسة استيطانية مكثفة في القدس الشرقية… وفي عام 1980، سنّ قانون أساس في الكنيست، يعلن القدس عاصمة إسرائيل، وبموجبه (أي وفق مبدأ دستوري)، ضمّت القدس الشرقية على أنها جزء من عاصمة الكيان الإسرائيلي.

ثم حُصِّنت مكانة القدس التي حددها القانون الإسرائيلي، بإجماع سياسي يشمل كل التيارات والأحزاب اليهودية، على رفض إخلاء الأحياء اليهودية من القدس الشرقية، في أي تسوية نهائية. وامتد هذا الإجماع – تقريباً – على مبدأ تقسيم القدس.

لدى التدقيق في مسار الاستراتيجية الإسرائيلية، يلاحظ أن ما شجعها على المضي بها، هو استنادها إلى حماية غربية وأمريكية، والأهم رهانها وإدراكها أن الطرف العربي كان يتكيّف ويسلم بكل سقف تفرضه من خلال الوقائع الاستيطانية. ومنذ بدء مسارات التسوية ارتفعت لديها الرهانات على الهرولة العربية على قاعدة أنّ من لم يلتحق اليوم بقطار التسليم بالوقائع المفروضة سوف يلتحق غداً. ومن يتواصل معها اليوم سراً، سوف يجاهر غداً بعلاقاته.

تتويجاً للمسارات السابقة، أتى موقف ترامب بالإعلان عن القدس، عاصمة لإسرائيل، الذي هو في الواقع (شرعنة) أمريكية للوقائع التي فرضتها إسرائيل، في ظل صمت عربي، واحتضان أمريكي. مع ذلك، تبقى مفاعيل هذه الإجراءات والمواقف الإسرائيلية والأمريكية، مرتبطة بخيارات الشعب الفلسطيني، لأنه رأس حربة المواجهة على أرض فلسطين، ومن خلفه القوى الإقليمية الداعمة. وليس من المبالغة القول إن (العدوان الأمريكي) على القدس، ينطوي على إمكانيات فرص كبيرة، فقد كشف عن حقيقة أن الرهان على دور أمريكي يتمتع بقدر من التوازن – حتى بمعايير أنصار التسوية – لم يكن سوى أوهام، استغرقت من عمر الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، واستنزفت قواه في مسارات غير مجدية. وهو ما يعني أن الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية، ومعها التطورات الإقليمية، تشكّل فرصة ودافعاً، لبلورة خيارات مصيرية سوف تكون لها مفاعيل تاريخية على حاضر ومستقبل فلسطين والمنطقة. وفي هذه الحالة، يجري كسر حلقات هذا المسلسل التاريخي الذي سبق أن شجع إسرائيل على التمسك بمقولة أن فرض الوقائع يدفع (بعض) الطرف العربي للتسليم به، والتكيف معه.

(الأخبار) اللبنانية

 

العدد 1140 - 22/01/2025